فـي يـوم .. ميـلاده : تتجـدد الذكـري .. ويتأكـد العهـد

عاصمة العرب .. ليلة رحيـل عبد الناصـر
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
على الرغم من مظاهر التمزق والقلق التي شملت المجتمع العربي في مصر عقب وفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر المفاجئة، فإن حالة التمزق التي تعرض لها المجتمع المصري لم تقود إلي حوارا من شأنه التنبؤ بنهاية نظام ثورة 23 يوليو 1952. لكن الحديث كان دائرا بحثا عن إجابة لسؤال أحادي شاع بين الجميع..من هو الشخص القادر على ملئ الفراغ الذي تركه جمال عبد الناصر؟
ترددت أسماء عديدة من بينها أعضاء مجلس قيادة الثورة القدامى، والذين أصبحوا خارج السلطة، مثل زكريا محي الدين أو عبد اللطيف البغدادي أو أسماء من الذين ظلوا إلي جوار ناصر في السلطة أمثال محمد أنور السادات وحسين الشافعي.

هذه الأسماء أو غيرها كانت حديث رجل الشارع وكانت محاولات الاختيار بين الناس قائمة على أرضية المقارنة بين المرشح وبين جمال عبد الناصر، ولم تكن المقارنة لصالح أيا من الأسماء المطروحة، حتى أن الشخصيات المرشحة لتولي موقع ناصر في السلطة قد اعترفوا بأنفسهم عن عجزهم في ملأ الفراغ الذي تركه ناصر.

كانت ردود فعل الملايين من الناس تعكس إلي أي مدي وصل الدور التاريخي لعبد الناصر وتأثيره في مصر والمنطقة العربية والعالم الثالث. وتحولت ردود أفعال الملايين من الناس إلي باروميتر لقياس العلاقة المتميزة والفريدة بين ناصر والجماهير العربية. فالعالم العربي لم يعرف طوال حكم ثورة يوليو قائدا وزعيما غير عبد الناصر ملأ ساحة العمل السياسي المصري والعربي والدولي زهاء خمسة عشر عاما، وأدى غيابه المفاجئ إلي فراغ في داخل النظام السياسي، وبالذات في علاقة النظام مع المواطنين.
فالأمر الذي لاشك فيه أن شعبية النظام الذي أقامته ثورة يوليو وشرعيته ارتبطت بشخصية جمال عبد الناصر، بل يمكن القول أن مصدر شرعية النظام الأساسية كان مصدرها الزعامة الناصرية.

وعلى الرغم من السلبيات التي لحقت بالتجربة الناصرية، فإن مظاهرات 9 و 10 يونيو 1967، التي شاركت فيها الملايين من الشعب المصري والعربي رافضين استقالة ناصر عقب الهزيمة العسكرية، حتى أن الملوك والرؤساء الذين كانوا على خلاف أو عداء مع ناصر اضطروا أن يتخذوا موقفا ينسجم مع المطلب العام للشعب العربي فانضموا بدورهم إلي حشود الملايين في مطالبة ناصر بالتراجع عن الاستقالة.

لقد وجد المحللين السياسيين في هذه المظاهرات استفتاء شعبيا جديدا على ناصر ومشروعه، واعتبروا هذا الحشد التلقائي من الملايين بمثابة تجديد الثقة والبيعة له " فلم ينقذ شرعية النظام الثوري في مصر غير خروج جماهير الأمة العربية يومي 9 و10 يونيو، ثمة حقيقة أن ناصر أثبت شخصيا أنه أكبر من النكسة، حين عاد فور تدعيم جماهير الأمة له إلي المقاومة المسلحة ضد العدوان والى قيادة حرب الاستنزاف .. والإعداد لحرب إزالة العدوان تخطيطا وإعدادا وحشدا."

لم تكن هذه هي رؤية المحللين السياسيين فحسب، وإنما كانت أيضا رؤية السادات وتقييمه لما جري من أحداث في 9 و10 يونيو، فأعتبر:" أن الشعب قد أستفتى في الواقع يومي 9 و10 يونيو 1967 على سياسة ناصر، وأن الدولة لابد أن تسير بكل دقة على طريق ناصر."

تكررت المظاهرات الشعبية التلقائية للمرة الثانية، وبسبب شخص جمال عبد الناصر، فقد خرجت مصر إلي الشوارع، وأحتشد أكثر من عشرة ملايين من المصريين في شوارع القاهرة، يضاف إليهم ملايين من العرب عقب وفاته يبكون على رحيل بطلهم. كان خروج الملايين عائد إلي أن ما حققه ناصر أكسب القيادة الشابة قبولا عاما .. والتي ساهمت إلي حد كبير في صياغة نظرية يجد فيها القومي والشيوعي والإسلامي كثيرا من مفاهيمه وأهدافه، ساهمت بدورها في خلق الوحدة الفكرية بين فئات الأمة واتجاهاتها. كل هذا جعل من ناصر زعيما للأمة بلا منازع، ورغم كل الأخطاء، كان مشهد وداعه شهادة بتوقيع الأمة على هذه الزعامة.

لقد عبرت جنازة ناصر عن دلالة سياسية واضحة، تشير إلي نموذج فريد قل تكراراه في التاريخ الإنساني، فقد كتبت صحبفة ألمانية تصف جنازة ناصر بأنها موكبا جنائزيا لم يحدث مع جينكيزخان إلي لينين وأتاتورك وغاندي وكنيدي، فمن المؤكد أن أكبر جنازة في تاريخ العالم قد سارت في القاهرة يوم الأول من أكتوبر سنة1970 في وداع ناصر.

جاء رحيل عبد الناصر المفاجئ ومصر تعيش حالة حرب فعلية، فجزء من ترابها الوطني تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، وقد توقفت حرب الاستنزاف نتيجة لقبول ناصر لمبادرة روجرز وزير الخارجية الأمريكية، ولمدة ثلاث شهور تنتهي في 9 نوفمبر1970، وكانت مصر في حاجة شديدة لفترة زمنية تمكنها من استكمال بناء حائط الصواريخ استعدادا للعبور. كما أنها أعطت لمصر فرصة لتعرية الولايات المتحدة وإسرائيل سياسيا أمام العالم.

في 29 سبتمبر أي بعد يوم من وفاة ناصر، أرسل أعضاء مجلس قيادة الثورة القدامى بمذكرة إلي أنور السادات نائب رئيس الجمهورية، يقترحون فيها عليه عدد من الخطوات لتخطي الكارثة ولسد الفراغ الذي ترتب على رحيل ناصر، والذي ليس بمقدور فرد واحد أن يملأه، وإنما يحتاج إلي المشاركة الشعبية الواسعة، فهي وحدها القادرة على سد هذا الفراغ. لذا فإنهم يقترحون عليه النقاط التالية:
انتخاب جمعية وطنية تمثل الشعب بسلطاته الدستورية والتشريعية المختلفة، على أن يكون للعمال والفلاحين نصف عددها. وتكون مهمتها وضع دستور دائم للجمهورية العربية المتحدة وأن يكون لها سلطة السيادة في الفترة الانتقالية والتي حددوها ب 6 أشهر على الأكثر، على أن يترأسها نائب رئيس الجمهورية المؤقت أي أنور السادات، وتنتهي مهمتها بمجرد إنشاء القيادة والمؤسسات الدستورية الجديدة.

وكان معني الاستجابة إلي ما احتوته المذكرة إحداث تغيير شامل للمؤسسات السياسية والدستورية والتنفيذية في مصر. وهذا يطرح الكثير من الأسئلة التي تتعلق بنقل السلطة، وبتأثيرها على الحالة القتالية للجيش المصري، وصولا إلي المستقبل السياسي للسادات نفسه ويقوض فرصته في أن يصبح خلفا لناصر. فبادر باستخدام ما جاء في المذكرة ضد موقعيها، معتبرا أن ما تضمنته من مقترحات يقود إلي بلبلة للرأي العام المصري والعربي.

في هذه الفترة نشطت حرب دعائية شنتها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ضد عبد الناصر ونظامه، فكان من البديهي أن تفسر تلك الحملة الدعائية بأنها رسالة موجهة لكل القوى الاجتماعية والسياسية المعادية لثورة 23 يوليو..أن تعتمد على دعم وتأييد الولايات المتحدة إذا ما تحركت لإسقاط نظام عبد الناصر.

أو أن تقود حالة التمزق والاضطراب إلي قيام جماعة بانقلاب عسكري. خاصة بعد التعديلات الجديدة التي شملت مدة التجنيد العسكري التي لم تعد مدة انتهائها مرتبطة بفترة زمنية محددة، وإنما ارتبطت بتحقيق هدف تحرير الأرض التي احتلتها إسرائيل في أعقاب حرب يونيو 1967.

  • إقليميــا:


  • كانت ردة الفعل على المستوي الإقليم بعد وفاة ناصر تتراوح بين الارتياح والقلق، فقد مثلت وفاة ناصر ارتياحا لدي أنظمة عربية كانت تعرف في القاموس السياسي _آنذاك_ بالنظم الرجعية. أما الخوف والقلق على المستقبل العربي بغير ناصر فكان شعورا عربيا وظاهرة عامة..خاصة بين أبناء الطبقات الفقيرة، فناصر كان يمثل لهم أملا في التخلص من السيطرة والاستغلال في الداخل، ومن الخارج.

    حول تفسير تلك العلاقة بين ناصر والإنسان العربي كتب برفسور فريدمان بيتنر في واحدة من أبحاثه المتعلقة بالتجربة الناصرية:" لا يوجد بلد عربي، فيه أناس تمشي في الشارع، إلا وقد نظروا إلي عبد الناصر كرمز لأمل في مستقبل أفضل، ولم يكن هذا الشعور قاصرا فقط على المصريين، وإنما شمل كل العرب، فعبد الناصر الذي أنهي الاحتلال التقليدي، قد أعطي للعرب الشعور بأن أصبح لهم هوية وكرامة."

    يضاف إلي أسباب التوتر السابقة التخوف من تجدد الحرب بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية، وبالتالي فتح أبواب التدخل الأجنبي في المنطقة، خاصة وأن ناصر قد تمكن من إنهائها قبل وفاته بساعات.

  • دوليــا:


  • على الصعيد الدولي تراوحت ردود الفعل أيضا بين الارتياح والقلق، ارتياحا في معسكر أعداء ناصر، وقلقا لدي حلفائه. لكن من المؤكد أن حالة من الارتياح قد شعر بها الإسرائيليون..وقد عبر عنها مناحم بيجين بقوله:" إن وفاة ناصر، تعني وفاة عدو مر. إنه كان أخطر عدو لإسرائيل. إن إسرائيل لهذا السبب لا تستطيع أن تشارك في الحديث الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدرته وحكمته وزعامته."

    أما وزير المستعمرات البريطاني _السابق_ فقد وصف دور ناصر بأنه:" شجع فجأة الحركات القومية وجعلها تتصور أنها قادرة أن تسحق بريطانيا، ولو أن ناصر استقل بمصر لما كان الخطر كبيرا على مصالحنا في العالم كله. وأنني أقول لكم صراحة أن ناصر كان أخطر على مصالحنا من الاتحاد السوفيتي ولم تستطع كل جهود روسيا أن تضعفنا كما استطاع أن يفعل ناصر."

    كانت جنازة ناصر تمثل للإدارة الأمريكية صحوة ووقفة لتصحيح تقديراتها الخاطئة عن عبد الناصر وسياساته، يقول ستيفين غرين:"…كان أيزنهاور ودالاس يفاجئان دائما بقرارات ناصر سواء قرار تأميم القناة أو بنجاح مصر في إدارة الملاحة بها، أو في قرار التسليح، كانت الإدارة الأمريكية تعتقد اعتقادا جازما بأن ناصر لا يلقي شعبية كبيرة في بلاده وأن شعبه سرعان ما سوف يخذله عند أول أزمة، ولعلكم تستغربون حينما أقول أن مكانة ناصر لدي شعبه لم تتضح أمريكيا بالشكل الكامل إلا عند تشييع جنازته الرهيبة سنة1970."

    أما السوفيت فكانوا على علم مسبق بالحالة الصحية لناصر. لذا فإنهم لم يفاجئوا كثيرا بوفاة عبد الناصر. لكن من غير المشكوك فيه أن رحيل ناصر قد مثل للسوفيت خسارة كبيرة، وقد ظهر قلقهم من خلال نداء اليكس كوسيجين للقيادات السياسية " عليكم أن تحاولوا السيطرة على الأشياء، لأنكم إذا سمحتم لأنفسكم بأن يجرفكم الحزن بهذه الطريقة فلا أحد يدرى ما قد يحدث، إن البلاد كلها يمكن أن تنهار."

    رحل القائد والبطل وأبو الفقراء وظل مشروعه .. وهو الآن يمثل وحدة قياس لكل ما يجري على الأرض العربية من المحيط إلي الخليج.
    قاعدة قياس .. للأمن القومي.
    قاعدة قياس .. لما وصلت إليه قضية العدالة الاجتماعية، والحق في المشاركة في الثروة الوطنية والقومية بين أبناء الأمة.
    قاعدة قياس .. لنسيج العلاقات بين الأنظمة العربية فيما بينها .. وبين الآخرين.
    قاعدة قياس .. لمطلب التنمية الشاملة، ودور الدولة في العملية التنموية.
    قاعدة قياس .. لما يجري على أرض فلسطين والعراق، ودور النخبة الحاكمة في الدولة المركزية .. وعاصمة العرب في القاهرة.
    قاعدة قياس .. لبرامج قوي التغيير وعلاقتها بقوي السيطرة داخليا وخارجيا.
    قاعدة قياس .. للإنتاج الثقافي الذاتي .. وبين الإنتاج الثقافي المستورد.
    قاعدة قياس .. قياس الحاضر .. والطريق إلي المستقبل.

    والدنا الغالي .. تحية محبة من أبنائك جميعا ومن ولدك كاتب هذه السطور والذي تعهدت بتربيته هو والملايين من الفقراء أمثاله. فرحمة الله وسلامه عليك .. وإلي أن نلقاك أقبل حصن يديك.

    للمزيد يمكن الإطلاع على هذه المراجع:
    1- د.على الدين هلال: تجربة الديمقراطية في مصر 1970_1981.القاهرة: المركز العربي للبحث والنشر، 1982.
    2- محمد حسنين هيكل: ثورة 23 يوليو. قضايا الحاضر وتحديات المستقبل. القاهرة: 1987، دار المستقبل. ط1.


    محمد فؤاد المغازي

    تاريخ النشر : 14.01.2005