لقد تحققت..نبوءة البرت أنشتاين !!
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
في المقال السابق ذكرت فيه أن طبيعة الصراع العربي _ الصهيوني تفرض على الجميع حلا أحاديا للصراع..عكسته مقولة " وحدة الأرض .. ووحدانية المالك ".

لا لتقسيم الأرض فهي وحدة واحدة..ولا ثنائية في ملكيتها فملكيتها تعود لطرف واحد. أما لمن تكون في النهاية؟ فلإجابة هنا مرتبطة بعنصرين أساسيين..الأول: الإرادة . والثاني: الزمن. والعرب كشعب يمتلكون العنصرين..أما الحُكَّامْ المَسْخْ فلا يمتلكون شيئا غير طاعة المحتل..والرضوخ لعبودية مصالحهم.

وتأسيسا على ذلك تعامل العدو الصهيوني مع الفلسطينيين بالطرد أو القتل أو الاقتلاع، فالعروس الجميلة لا تستطيع أن تتزوج رجلين في نفس الوقت..فأحدهما يجب أن يختفي.

في هذا المقال فإن هناك إضافة تتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي توصيفا ونهجا وحلا. هذه الإضافة ترتبط أهميتها من المصدر المنقول عنه..أي من قيمة صاحبها وشهرته..إنه ألبرت أنشتاين عالم الفيزياء اليهودي الشهير.

ففي لقاء له مع الأستاذ محمد حسنين هيكل في أواخر عام 1952 جاء في حديثه ما يدعم مقولة وحدة الأرض ووحدانية المالك. إضافة إلي رؤيته وتشخيصه للصراع العربي - الصهيوني أمدنا أنشتاين بمنهج بحث..وطرح حلا للصراع.

قال أنشتاين أنه :

"عندما تتصادم أسس أي فكرة مع عملية تجسيدها فإن هذا التصادم في حد ذاته يجب أن يدلنا على أن هناك خللا ما في مكان ما. لابد أن نبحث عنه. وأن نكشف موضعه. ثم نحاول إصلاح الخلل. هل هو "عندنا". هل هو "عندكم" أم هو "عضوي" في الفكرة ذاتها؟ "

كما ورد على لسانه أيضا : "أنه من الحكمة، أن نصل إلى اتفاق مع العرب على أساس حياة مشتركة، سلمية، لا على أساس إنشاء دولة يهودية. والذي أفهمه من الطبيعة الجوهرية لليهود، يصطدم بفكرة دولة يهودية، ذات حدود، وجيش، ومشروع سلطة زمنية، مهما تكن متواضعة.

إني أخشى المساوئ الداخلية التي ستحمل اليهودية وزرها، بسبب تنامي الشعور القومي الضيق في صفوفنا...فإذا عدنا أمة، من جديد، بالمعنى السياسي لهذه الكلمة، فإن هذا يعادل التخلي عن روحانية طائفتنا التي نحن مدينون بها لعبقرية أنبيائنا.

"...فالحقيقة أنني لا أريد (لليهود) أن يقعوا في إسار الوطنية الضيقة. أخشى عليهم من ذلك. طوال تاريخهم كانت حياتهم وأفكارهم عالمية. تعرضوا لاضطهاد...إنهم أحسوا بحاجتهم إلى وطن يحميهم وكان هناك الحلم القديم _الوعد القديم_ بفلسطين، وقد ذهبوا إليه. الذين ذهبوا أقلية بين اليهود. الذين ذهبوا هم الذين قرروا أن الإنسانية ليست قادرة بعد على حمايتهم وأن الوطن يقدر. هناك منطق معين في هذا الكلام لكن وراء المنطق مشكلة. "

غير أن الوطن اليهودي محصور والعرب لا يريدونه بينهم. لاحظ أن هناك يهودا كثيرين لا يريدونه أيضا في فلسطين ولا في غيرها. مشكلة منطق الوطن _كما أراها، وفى حالة الحصار والرفض_ أنها تستدعى حالة من الوطنية الضيقة التي يترتب عليها ما يمكن أن نسميه اختناق المكان (ويقصد البرت أنشتاين حدود الدولة) وهذا يخلق نزعات عدوانية تعيش على العنف به، وهذا يفسد روح أي شعب ويفسد بالتالي سياسته منهجا وأسلوبا...أظن أني أوافق على أن يكون لليهود بيت ووطن يذهب إليه من يريد منهم…إنني أتعاطف مع الفكرة إنسانيا وأخشى من عواقب تنفيذها لأن الوطنية الضيقة قد تحولها إلى بؤرة عنف تتناقض مع الفكرة."

أنا لا أريد أن تكسب (فكرة إسرائيل) أي الدولة أرضا، ويكون الثمن أن تخسر (فكرة إسرائيل) روحها.

وكان البرت أنشتاين يشاطر اليهود حلم وطن أكثر من مشاطرتهم بناء دولة " أن يكون لهم لا يضطهدهم فيه أحد..ولا أريدهم أن يضطهدوا أحد. فعرب فلسطين لهم حق في الوطن الوحيد الذي عرفوه، لا يستطيع أحد أن ينكره عليهم. ما كان يحزنني فيما جري أنه بدى صراعا بين حَـقَّيْـنْ مما سبب لي أزمة ضمير. لقد أسعدني قيام دولة يهودية في فلسطين. وأحزنني المأساة التي تعرض لها عرب فلسطين. وكان في ظني أن القوي الدولية المعنية تستطيع أن تعالج هذه المحنة. ولكن هذه القوى لم تستطع، ولعلها أرادت – لمصالحها – تعميق المشكلة بدلا من محاولة حلها."

كان رفض البرت أنشتاين لفكرة الدولة..مبنيا على رفضه للفكرة ذاتها. فالدولة بطبيعتها مرتبطة بفكرة الوطنية الضيقة وهي فكرة مفسدة للبشر بصورة عامة. لهذا كان رفضه لفكرة "الدولة اليهودية"..فقيامها سيرتبط بالوطنية الضيقة حتما التي ستقود اليهود إلي ما هم عليه الآن. ولعل رؤيته الفلسفية أو الموضوعية كانت وراء رفضه للعرض بأن يكون رئيسا للدولة الصهيونية.

وهو من كتب رسالة إلي الرئيس الأمريكي يطالبه بإلغاء زيارة مناحيم بيجين إلي أمريكا، وتظاهر ضد هذه الزيارة..أكثر من هذا فإنه كان يصف مناحيم بيجين بالسفاح النازي.

هذا الاستشراف لرؤية الصراع عمره أكثر من ثمانية عقود، ومن شخصية يهودية لها مكانتها وشهرتها فالبرت أنشتاين يشير وبوضوح وفي فترة مبكرة إلي أن قيام دولة يهودية وعلى أيدي متعصبين من بينهم نازيين في مسلكهم سيقود إلي خلق مناخ من التعصب سيؤذي طرفي الصراع..تعصب وحد بين صقور وحمائم الكيان العنصري فمهما يكن من اختلافات في البناء والأساس الأيديولوجي بين الليكود وحزب العمل فإن الجميع توحد حول مقولة وحدة الأرض ووحدة المالك الصهيوني.

ولم يكن البرت أنشتاين وحده صاحب التحليل في رد أسباب الصراع إلي قيام الدولة اليهودية، فقد شاركه هذه الرؤية المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد تونبي فقد أعاد هو الآخر أسباب الصراع العربي-الإسرائيلي بأنه كان مشكلة وأزمة أوروبية أرادوا إيجاد حلا لها على حساب الآخرين واعتقدوا:"أن المشكلة اليهودية التي افترضوا أن إنشاء دولة يهودية بها سيكفل حلها، هي في الأصل مشكلة اليهود في المجتمع الغربي. وقد أقحم هذا المجتمع تلك المشكلة على العرب عندما عجز عن حل عقدة العلاقة بين الأقلية اليهودية وبين العناصر الأساسية الأخرى في المجتمع."

لقد تحققت تخوفات أنشتين ووصل الصراع العربي_الإسرائيلي إلي الحالة التي نحن عليها الآن. وأفضى في نتائجه أن أوصلت المنطقة إلي حالة من التسمم السياسي من الصعب إيجاد حلول لها. ورسخت قناعة فرضتها طبيعة الصراع على أطرافه بأن القوة هي الوسيلة الوحيدة لحسم الصراع العربي_الإسرائيلي، وأن أي شكل من أشكال السلام المزيف هو ترجمة لموازين القوة، والتي وظفت كل إمكانيات الدولة اليهودية كي تظل المؤسسة العسكرية في موقع يضمن وباستمرار"...وضع السياسة الإسرائيلية باستمرار في أقوى وأفضل موقف تفاوضي."

ملحوظة:

(هذا ما فعله ويفعله الأمريكيون قبل الغزو وبعده للعراق.. أن يتولى الجيش الأمريكي تنفيذ القرار الصادر السياسي بالقوة..ألم نتعلم أن الحرب هي ترجمة وتطبيق للقرار السياسي بالحرب!!)

هذا الجدول يبين أن ما قال به البرت أنشتاين كان صحيحا .

الاضطهاد التاريخي لليهود في أوروبا
قاد إلى
ظهور فكرة الدولة
فكرة الدولة طرحت الحاجة إلى أرض
قادت إلى
فلسطين أرض الميعاد
الوطنية أو القومية الضيقة
قادت إلى
اختناق المكان
اختناق المكان
قاد إلى
الإصرار على التوسع
التوسع
قاد إلى
حالة العنف والحرب
حالة العنف والحرب
قادت إلى
إفساد روح شعوب المنطقة
إفساد روح شعوب المنطقة
قاد إلى
انعكاسها على منهجهم وسلوكهم
التراكمات الناجمة عن الصراع
قادت إلى
تراكم العداء بما لا يسمح بحل سلمى، أو مصالحة تاريخية بين طرفي الصراع

لهذا..فإن الاستمرار في طرح محاولات سياسية تلفيقية لحل الصراع العربي - الإسرائيلي محكوم عليها بالفشل..وأن الحل الوحيد الذي طرحه البرت أنشتاين بشكل غير مباشر هو تفكيك الدولة اليهودية. أما التسوية السياسية فهي النهج الذي سوف تستمر فيه أنظمة السلطة في عالمنا العربي. وسينضم إليهم النخبة القادمة بقيادة أبو ماسخ بعد أيام.

إنها مرحلة متصلة مع سابقتها.. وأن زمن أبو ماسخ ممتد مهما تفننوا وبرعوا في وضع المساحيق أو حتى لبسوا طاقية الإخفاء. وسيبدأ التسليم بشروط العدو بشكل بطئ ومغلف بصياغة غامضة، بعدها سيزداد معدل سرعة التنازلات..وسنسمع في مستقبل الأيام عن إجراءات مشابهة لما جري في قلعة العرب مصر..مع اختلافات جوهري..هو أن ما سيجري للفلسطينيين ليس إجراءات خصخصة..وإنما إجراءات مصمصة لما تبقي من عظام الفلسطينيين.

محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 11.01.2005