العـراق كعكـة تغـري .. بتقسيمــــها
ودوره التاريخي يحرض..على تفتيته
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
عندما اندلعت الثورة الفرنسية تسببت في حراك اجتماعي، أخذ شكل التمرد والثورة لدى شعوب أوروبا..مما دفع بملوكها بعد هزيمة نابليون في عام 1815 إلي عقد مؤتمر في مدينة الثقافة والفنون فينيا. وفي واحدة من ليالي الأنس في فينا جلسوا هؤلاء الملوك يتآمروا على مصائر وحرية شعوبهم، فانتظموا في حلف..صاغوا بنوده في اتفاقية عرفت باسم (أكس لاشابل عام 1818).

هذه الاتفاقية منحت تلك الطغمة من الملوك الطغاة حق التدخل في قمع أي انتفاضة أو ثورة ضد النظم الملكية المتواجدة في أوروبا..وبرروا تآمرهم بأنه من أجل أن يسود الاستقرار والأمن والسلام. ولم ينسوا إضافة المسوح الدينية فأطلقوا على تحالفهم أسم " الحلف المقدس ". وجاء من بين المتاجرين بالدين من أفتي لهم بأن الثورات الشعبية، وتمرد الرعاع ضد ملوكهم هو عمل من رجس الشيطان، وسلوك معادي لمبادئ وجوهر الديانة المسيحية.( كلام ليس غريبا على مسامعنا..تلوكه ألسنة المتاجرين بالأديان السماوية يوميا)

بعدها بعقدين تحالفت ذئاب أوروبا عام 1840 لتنهش عظام محمد علي وتوقف مشروع النهضة الذي بدأ في مصر..لكن الغريب في الأمر هو انضمام سلطان المسلمين إلي سلاطين المسيحيين..ليمنعوا محاولة شعب أعزل كي ينهض ويسترد دوره الحضاري. ( وفي زمان العولمة الديموقراطي، فإن مشروع النهضة من المحرمات على أي شعب من شعوب العالم الثالث..رغم الفارق الزمني الذي يفصلنا عن عصر السلاطين والملوك بأكثر من 150 عاما) !!

ما جري..ويجري مع العراق هو قريب الشبه لما جري في عام 1818 مع شعوب أوروبا، ومع مصر عام 1840..رغم ما لحق بأشكال التحالف من تغيير..فلم تعد كلها أنظمة ملكية، وإنما تَجَمُّـعْ يضم خليطا من ذوي الألقاب المختلفة لكنهم يقومون بنفس الدور..كما شهد العالم بروز تنظيمات دولية واختفاء أخري، وجرت صياغة قانون وميثاق أممي، وتأسيس محكمة عدل دولية..كل هذا بغرض خلق إطار عام ينظم العلاقات الدولية على أساس من التكافؤ والعدل والمساواة..كي يتحقق السلام والأمن الدوليين. (أسطوانة التحالف الغربي المشروخة من كثرة تكرارها تروج في تهيئة الجو السياسي العام وتبرر التهام فرئسها من الضعفاء)

غير أن هذا التطور الذي لحق بالتنظيم الدولي وأدواته لم ينجح في إقناع إدارة دولة من رعاة البقر..في أن تحترم هذا التطور الإنساني باهظ التكلفة. لم يتمكن المجتمع الدولي الحديث من كبح جموح هذا الهمجي الأبله بشهادة أمه من غزو أرض محرمة بحكم إرثها الحضاري..تتبعه مجموعة من قادة الدول لم تساهم أغلبيتها في العدوان على العراق بأكثر من تدوين أسمائها في قائمة التحالف الغير مقدس..أو وضعت أراضيها نقطة وثوب واستراحة لجنود الغزو.

وهكذا، ظلت قيم الظلم والعدوان والبطش بالمستضعفين هي القيم السائدة، لم يتغير شيئا..كل شئ بقي على حاله فلا القوي المتوحشة أكتفت بما نهشته ونهبته عنوة من الضعفاء، ولا الضعفاء وصلوا إلي حالة من القدرة تمكنهم من قطع كل يد تمتد بالنهب لثرواتهم واغتصاب جهدهم.

لكن لماذا المقارنة بالعراق ؟
منذ زمان والعراق مطلوب السيطرة عليه بفعل ثرواته، وتفتيته بفعل دوره التاريخي. فالفريسة وفقا للتوصيف الاستعماري يجب أن تتوفر فيها أحد الشروط الثلاثة:
الأول: إما ثروات طبيعية هائلة تغطي تكاليف الاستيلاء..وتفيض.
الثاني: أن تحظى الفريسة بموقع متميز يساعد الدول الاستعمارية على الانقضاض على دول أخري تتمتع بما جاء في البند الأول.
الثالث: أن يكون للفريسة دور مركزي ومتميز في محيطها الإقليمي يسهل أو يعيق مشروع السيطرة.
ومن سوء حظ العراق أنه يمتلك كل هذه المميزات والأدوات. فالعراق كيان ثري جدا..بموارده الطبيعية وفي مقدمتها النفط والفوسفات..والزراعة. والعراق له كيان الدولة..ودوره مركزي في محيطه الإقليمي والعربي مما رسخ قناعة عند كل العرب بأنه ضمانة لأمن تخومهم الشرقية.

إضافة إلي كل هذا فهو كيان يمتلك إرث حضاري متفرد ليس له نظير في محيطه الإقليمي أو العالمي..فالعراق هو واحد من أعرق الحضارات الأصيلة في التاريخ الإنساني.

هذه المميزات بدلا من أن تكون عونا للعراق، تحولت إلي وبالا عليه. وهكذا وقع العراق ضحية لثرائه، ولتفرده الحضاري، ولدوره المتميز في حياة العرب والآخرين.

ونتيجة لكل هذا التميز، ظل العراق فريسة تغري الذئاب الغربية بالتهامها، وكيان يثير خوف دول الجوار وترى في تفتيته ضمانات أمن لها. وبعد صعود دولة رعاة البقر على المسرح الدولي وتفردها بقيادته، تولت بنفسها التربص بالعراق والعمل الجاد النشط للانقضاض عليه.

وكلنا نتذكر ما قاله الصهيوني هنري كيسينجر أن إدارة دولة رعاة البقر قد أعدت خطة عسكرية للاستيلاء على منابع النفط بشكل مباشر عقب حرب عام 1973، والتي يفصلها عن حرب الخليج الأولي أكثر من 15 سنة. وهذا يعني أن الإعداد والتخطيط للاستيلاء على العراق كان مسألة وقت وتهيئة فرصة..وليس عائد لغزو الكويت، أو لعنجهية وطغيان القيادة السياسية في العراق..هذا ليس صحيحا.

ولقد آن الأوان كي نفهم أن فترة الحصار والتي دامت أكثر من 13 سنة، لم تكن إجراء عقابي لنظام صدام حسين..وإنما فترة إعداد للانقضاض على العراق. وكان الغرض من الحصار أن يحقق نتائج تقود إلي إضعاف العراق عسكريا ومجتمعيا تمهيدا لغزوه.
فإضعاف العراق اقتصاديا وماليا سوف ينعكس بالضرورة على قدرته في سد الاحتياجات المعيشية..وانعكاس هذا بدوره سينعكس على علاقة النظام بالشعب العراقي، وشل قدرة العراق الدفاعية خطوة مهمة على طريق البدء بالغزو العسكري كمرحلة أولي، ترافق خطة الهجوم حملة دعاية منظمة ومستمرة طوال فترة الحصار وإلي يومنا هذا تمهد وتبرر العدوان، إفساد أي فرصة تمكن العرب من تخطي أزمتهم بغير تدخل خارجي..وتوفرت لقوي الغزو من بين الحكام العرب من تولوا مهمة إفساد أي حل عربي.

وعندما شعرت إدارة الشر الأمريكية أن الفرصة أصبحت سانحة لم تتردد في تنفيذ مخططها المعد سلفا تحرضها دولة كان لها دور إمبراطوري في الماضي وقبلت بدور صبي إمبراطور في حملة الغزو على العراق..ساعتها لم يكن لديمقراطية رعاة البقر آذان تسمع صرخات الملايين من كل أجناس البشر في العالم تطالب بوقف العدوان، ولم يكن لديمقراطية الطغاة عيون تري قنابلها وهي تحصد أرواح العراقيين..لم يكن للديمقراطية غير زراعا يبطش ويدمر لا يفرق بين رضيع وبين مقاتل.

وهكذا، كان الغزو العسكري للعراق تقليدي ومرتبط بتحديد أهداف استراتيجية واضحة..تتمحور حول الاستيلاء على العراق عسكريا، والقضاء على أي مقاومة حقيقية للعراقيين..تمهيدا لقدوم جيوش تنتظر في عواصم دول التحالف كتائبها من طلائع البنوك الأجنبية، والشركات المتعددة الجنسية، وكتائب من السماسرة من كل الجنسيات..إضافة إلي استجلاب قوي عاملة سيراعي في اختيارها أن تكون من جنسية لا تربطها بالعراق علاقة نسب قومي كي يضمنوا ولائهم.

بعد النصر العسكري، وتقسيم الكعكة وتفتيت الدور التاريخي للعراق..تبدأ إجراءات التزاوج والنكاح..في حفل يقام في حديقة البيت الأبيض فيضع علاوي أو أي عميل بصمته على اتفاقية كامب ديفيد (رقم ؟؟) لا أدري..يتبعها تطبيع تدريجي، يبدأ بمناهج التعليم وبتغييب آيات القرآن الكريم، في هذا الوقت سيكون الخبراء قد أعدوا مشروع الخصخصة لكل العراق..الأرض الاقتصاد والمال والثقافة والدين والعلماء..وحتى المتاحف العراقية. لن يتركوا شيئا يذكر العراقيون بالعراق..أو يذكر العراقيون بالعرب.

بعدها يظهر على المسرح السياسي شيخ يرتدي عمامة سوداء وآخر بعمامة بيضاء وبيدهم فتوى تقول: وإن جنحوا للسلم..فصهين. وأن من يقاوم أطراف التحالف المقدس يستحق الرجم بتمر العراق. بعدها يعلقون شعار المرحلة يزينون به شوارع بغداد:
العراق أولا..والعراق ثانيا..والعراق ثالثا.

أليس هذا بالضبط .. هــو حلــم إبليــس في العــراق؟؟

محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 05-03-2005