تجوع مصر المصونة .. ولا تأكل بالمعونة
إعداد : ألهامى الميرغنى باحث مصرى

خرج علينا السادات خلال حرب أكتوبر بأنه أكتشف بعد بدء الحرب أنه يحارب أمريكا وليست "إسرائيل" ، وبما إننا دولة صغيرة من العالم الثالث فيجب ألا نواجه ذلك العملاق ونستسلم لمخططاته ومسح كل صمود فيتنام وكمبوديا في مواجهة أمريكا ، وبعد أيام قال أن 99% من أوراق اللعبة السياسية في الشرق الأوسط في أيد أمريكا ، وبعدها استقبلت مصر ولأول مرة الرئيس الأمريكى نيكسون لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات المصرية الأمريكية استمرت بعد رحيل السادات وقدوم مبارك وبدء المناورات العسكرية المشتركة مع القوات الأمريكية وتحول النظام المصرى إلى التبعية الكاملة للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط وجر باقى الأنظمة العربية وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية إلى حظيرة التسوية الأمريكية الصهيونية.

وبما أن النظام المصرى قد خضع بالكامل للاستراتيجية الأمريكية فمن الطبيعى أن تلجأ مصر إلى منظمات الإقراض الدولية (الخاضعة للسيطرة الأمريكية) وهى صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للإنشاء والتعمير لإقراض مصر ومساعدتها على تصحيح الاختلالات الهيكلية أو ما عرف بسياسة الإصلاح الاقتصادي. وتم إلغاء دعم السلع الأساسية وبدء بيع القطاع العام وغرقت مصر في بحر الديون .

وعندما بدأ النظام المصرى مسيرة التسوية مع العدو الصهيونى بدء من مباحثات الكيلو 101 وانتهاء بكامب ديفيد واتفاقية الصلح مع العدو برعاية الولايات المتحدة الأمريكية قررت راعية التسوية مكافأة مصر وإسرائيل بمنحهم مساعدات سنوية ما بين أربعة إلى خمسة مليارات دولار وهى ما تعرف بالمعونة الأمريكية.

  • وغرقنا في بحر المعونة

  • توجد هيئة أمريكية مسئولة عن المعونات التى تقدمها الولايات المتحدة للأنظمة الحليفة في العالم وهى التى تحدد حجم المعونة وبنود الصرف وتشرف على التنفيذ ، وفى برج كايرو سنتر في قلب ميدان التحرير بالقاهرة يوجد مقر المعونة الأمريكية في مصر والذى يكلله شعار المعونة وفيه يدان يتصافحان على أحداهما العلم الأمريكى وعلى الأخرى العلم المصرى.

    حصلت مصر على مدى السنوات الماضية على أكثر من 40 مليار دولار كمعونات أمريكية وقد بدأت بمعونات الدقيق واللبن الجاف والذبدة الصفراء التى راح ضحيتها الدبيش عرايس بطل رواية يوسف القعيد ( يحدث في مصر الآن ) والذى خرج مع ملايين المصريين يستقبل نيكسون الذى جاء إلينا بالمن والسلوى الأمريكية والذى ستتحول مصر على يديه إلى جنة .

    رغم وجود شروط أمريكية معروفة لإنفاق هذه المعونات نذكر منها :
    ـ برنامج الاستيراد السلعى للقطاع الخاص والذى يجبر الحكومة على شراء منتجات أمريكية ونقلها على سفن أمريكية وربما يكون عمرها الإفتراضى قد انتهى وربما تكون معدات مستعملة.
    ـ برامج التدريب والإبتعاث وهى تتم من خلال إرسال مئات المصريين من كبار المسئولين ورجال الدولة والعسكريين لتلقى دورات تدريبية في الولايات المتحدة ومنهم الفرقة التى سقطت بهم طائرة مصر للطيران المنكوبة قرب السواحل الأمريكية . ويتم خلال هذه البرامج ربط المتدربين بالولايات المتحدة باعتبارها كعبة التقدم والرقى بحيث يتحول هؤلاء المتدربين عند عودتهم إلى أبواق للدعاية للنموذج الأمريكى.
    ـ استقدام الخبراء الأمريكيين في شتى مجالات العمل وتقدر بعض المصادر وجود 26 ألف خبير أمريكى في مصر حالياً (وهو ما يفوق عدد الخبراء السوفيت الذين طردهم السادات) . ويحصل هؤلاء الخبراء على 35% من القيمة السنوية للمعونات التى تقدم لمصر .
    ـ تذهب باقى قيمة المعونة لدعم قطاع الخدمات ولا يقدم منها نقداً إلا نسبة لا تتجاوز 10% .

    والسؤال الآن هو إلى أى مدى استفدنا من المعونة ؟! والى أى مدى أضرتنا المعونة ؟!

  • حساب الأرباح والخسائر :

  • لا شك أن المعونات ساهمت في تطوير بعض القطاعات وإمدادها بأجهزة حديثة وساهمت في انتشار دخول الحاسب الآلى لبعض الجهات الحكومية ومولت برامج تحديث للعديد من الجهات الحكومية والخاصة وأطلعت بعض المسئولين على الأساليب العلمية والإدارية الحديثة .ولكنها في نفس الوقت ربطت العديد من المسئولين وصناع القرار بالسياسة الأمريكية باعتبارها الممول الذى يدفع ، كما ساهمت في إفساد ودعم فساد العديد من المسئولين من اعلى مستويات الحكم وحتى مستويات المجالس القروية في أعماق الريف المصرى.

    كما أن هناك أكثر من 1200 شركة أمريكية استفادت من المعونات التى قدمت لمصر سواء من خلال تصريف منتجاتها أو من خلال تنفيذ مشاريع في مصر. وبذلك فإن تقييم نتائج الأرباح والخسائر سيكون لصالح الولايات المتحدة وليس لصالح مصر وهذا أمر طبيعى .

    ولكن الدعم الأمريكى الممثل في المعونة ساهم أكثر في دعم الترابط العضوى بين السياسة المصرية والسياسة الأمريكية وجعل النظام في مصر جزء من المنظومة الأمريكية. وهنا نتساءل بعد كل هذه السنوات إلى أين وصلت مسيرة الاقتصاد المصرى فى ظل المعونة ؟!!!

  • ولعل الأرقام أكثر توضيحاً ومنها :

  • ـ وصل الناتج المحلى الإجمالى في عام 2000 بالأسعار الجارية إلى 95.8 مليار دولار أو 326 مليار جنيه.
    ـ بلغ عجز الموازنة العامة للدولة عام 2000 أيضاَ حوالى 3.4 مليار دولار أو أكثر من 15 مليار دولار بسعر الدولار الآن .
    ـ بلغ عجز الميزان التجارى 8.3 مليار دولار أى أكثر من 40 مليار جنيه .
    ـ كما بلغ الدين العام الخارجى 27.1 مليار دولار أو 124.2 مليار جنيه وهو ما يمثل 27.8 % من الناتج المحلى الإجمالى .
    ـ كذلك بلغ الدين العام الداخلى 74.1 مليار دولار أى 344.6 مليار جنيه وهو ما يعادل 77.3 % من الناتج المحلى ومع ذلك يتبجح رئيس الوزراء ويقول أنه لم يصل بعد إلى حد الخطر !!!

    هذه هى أوضاع الاقتصاد المصرى بالأرقام في ظل المعونة وإذا نظرنا للأمر من زاوية الإنسان المصرى البسيط نجد الآتي :
    ـ إلغاء الدعم أدى إلى انفجار التضخم واكتواء غالبية المصريين بنار الغلاء وعجزهم عن تدبير ضرورات المعيشة. ـ بيع القطاع العام أدى إلى إهدار جانب رئيسى من الثروة المصرية تم تبديدها دون إضافة أصول إنتاجية جديدة وتشريد الآلاف الأسر تحت بند المعاش المبكر.
    ـ توقف الحكومة عن التوظيف وعجز القطاع الخاص المدعوم حكومياً وأمريكياً عن توفير فرص عمل كافية لاستيعاب الوافدين الجدد لسوق العمل أدى إلى انفجار البطالة كظاهرة تهدد الاستقرار الاجتماعى.
    ـ توجيه دعم الإسكان إلى المساكن الفاخرة والقرى السياحية أدى إلى انتشار العشوائيات وما تمثله من خطر اجتماعى ومناخ لكل أشكال الخروج على المجتمع.
    ـ تخلى الدولة عن التعليم والصحة أدى إلى فقدان الثقة وتدهور الحالة التعليمية والصحية بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر المعاصر.

    إذاً ماذا استفدنا من هذه المعونة الأمريكية التى تدفقت على الحكومة عبر أكثر من ربع قرن فزادة الأغنياء ثروة وزادة الفقراء معاناة فوق معاناتهم . ولماذا تتمسك الحكومة بهذه المعونة ولا تستغنى عنها ؟!!! وطالما أن أمريكا أنذرت الحكومة بوقف المعونات خلال خمس سنوات فلماذا طلبت الحكومة دعم إضافى ؟!! وهل يستطيع النظام الحالى اتخاذ موقف من الولايات المتحدة ؟!!

  • النظام المصرى والولايات المتحدة :
    يتسرع البعض بسهولة بتأييد موقف قطع العلاقات مع الولايات المتحدة ، كما يستسهل البعض استمرار أوضاع التبعية الحالية . ولكن لو تأملنا الأمور بعمق أكثر نجد الآتي :
    ـ تمثل الولايات المتحدة الدائن الرئيسى لمصر والعنصر المؤثر في قرارات منظمات الإقراض الدولية.
    ـ يبلغ حجم الاستثمارات الأمريكية المباشرة في مصر 3 مليار دولار منها 2.3 مليار في قطاع النفط و700 مليون دولار في قطاعات الإنتاج والخدمات. وتمثل الاستثمارات الأمريكية في مصر 33% من الاستثمارات الأمريكية في الشرق الأوسط و5.2 % من الاستثمارات الأجنبية في مصر .
    ـ تتوجه 45.3% من الصادرات المصرية إلى أسواق الولايات المتحدة كما إننا نحصل على 21.2% من وارداتنا من الولايات المتحدة وهنا تبرز مشكلة القمح والاعتماد على الولايات المتحدة في توفيره رغم كونه سلعة استراتيجية بما يؤكد فشل السياسة الزراعية في مصر.

    لذلك علينا أن نضع خطة بديلة لوضع الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة الأمريكية بحيث لا نستغنى فقط عن المعونة التى ساهمت في إفساد المسئولين وإفقار الغالبية من شعبنا ولكن عن مجمل التبعية الاقتصادية لأمريكا سواء في الديون أو الاستثمارات أو أسواق الصادرات والواردات . فالمشكلة أكبر وأعمق من موضوع المعونة .

    علينا أن نهتم بتوجهنا للاستفادة من الشراكة الأوروبية والعمق العربى والإفريقى باعتبارها البدائل المتاحة . علينا أن نبتعد عن الحلول الانفعالية ونخضع القضية لدراسات متأنية لكل قضية ولكل مشكلة وما هى البدائل التى يمكن الاعتماد عليها .وعلينا أن ندعوا الحكومة لوقف استقبال المعونة الأمريكية وتقديم بدائل لتمويل أى برامج كانت تمول من خلال المعونة.

    وإذا كانت الولايات المتحدة قد غيرت سياستها تجاه مصر نتيجة رفضها تصفية السلطة الفلسطينية ورفض المشاركة في ضرب العراق وبدأت الإضرار بالأمن القومى المصرى من خلال محاولة اللعب في جنوب السودان . واتخذت قضية سعد الدين إبراهيم ذريعة لرفض تقديم دفعة إضافية من المعونة فعلينا أن نقف وقفة جادة تجاه العلاقات المصرية الأمريكية ونبدأ التفكير في الاعتماد على أنفسنا بدون هذه المساعدات وبحيث يكون الاستغناء عن المعونة خطوة على طريق وقف خطوات التبعية الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الأمريكية ولكن هل يجرؤ النظام الحاكم على التفكير بهذا الأسلوب وهل يفكر الفسدة والتابعين للفلك الأمريكي في ذلك . هذا هو ما ستوضحه المرحلة القادمة.
    تجوع مصر المصونة ولا تأكل بالمعونة . وكما قال قديما عمنا أبو الطيب المتنبى :

    صار الخصى إمام الأبقين بها            فالحر مستعبد
    والعبد معبود
    نامت نواطير مصر عن ثعالبها           فقد بشمن وما
    تفنى العناقيد


    مع تحيات : ألهامى الميرغنى باحث مصرى