أبناؤنا في الخارج
قلم : إلهامي الميرغني

وطني عنك ما استطعت إغترابا                وعلى البعد زدت منك اقترابا

عرضت قناة "دريم الفضائية" ضمن برنامج " الحقيقة " الذي يقدمه الأستاذ وائل الإبراشى حلقة حول المصريين في الخارج وعلاقتهم بالحركات الجهادية في فلسطين والعراق كما نشرت جريدة الأهرام على صفحتها الأولى يوم 20 سبتمبر خبر عن محاكمة 50 مصري في ليبيا بتهم مختلفة ، وقد أثارت هذه الموضوعات مرة أخري قضية هجرة المصريين وأسبابها ونتائجها.
لقد تابع المصريين خلال الشهور الماضية عدة أحداث منها المصري الذي أعدمته أحدى الجماعات المسلحة في العراق بتهمة التجسس لصالح القوات الأمريكية ،ومصري آخر استشهد في عملية عسكرية بالعراق رغم انه سافر للعمل منذ 23 سنة وبقيت جثته في ثلاجة مستشفى الفلوجة بانتظار تدخل السفارة المصرية لاستلام جثته وإرسالها إلي أهلة في مصر ، وآخر اعتقلته جماعة مسلحة ثم أطلقت صراحه ، وستة طلاب سافروا لفلسطين يريدون الجهاد واعتقلتهم السلطات الإسرائيلية والعديد من محاولات لشبان وأطفال يحاولون دخول فلسطين ، واخيرا المصريين المعتقلين في ليبيا.

رغم كل ما خطه علماء الاجتماع عن ارتباط المصريين بالأرض وتركزهم في وادي النيل وتعلق حياتهم بالتراب المصري ، وشدة شعورهم بالغربة حين يجبرون على الابتعاد عن مصر كما حدث أيام السخرة. تغيرت مصر وتغير المصريين .
ففي السبعينات وبعد انفتاح مصر على يد أنور السادات وإطلاق كل قوي السوق الرأسمالي التابع المتوحشة تنهش المصريين وبعد أن شهدت العديد من الدول العربية طفرة نفطية ، أجبر ملايين المصريين على مغادرة مصر سعياً وراء الرزق ، وبعد أن كانت هجرة المصريين قاصرة على المهنيين من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات شملت الهجرة جميع المهن والحرف وهاجر 2 مليون فلاح للعمل في العراق ، وتحول نمط البناء في الريف المصري من الطوب اللبن إلى الخرسانة المسلحة وتحول الريف المصري من القرية المنتجة إلى القرية المستهلكة التي تأكل العيش المصنوع في المخابز الموجودة في القرى بدلاً من أفران المنازل ، وبعد أن كان الفلاحون ينامون بعد صلاة العشاء عرفنا التلفزيون الملون وأطباق الاستقبال الفضائي التي يسهر أمامها المصريين حتى الصباح. لذلك أرى أنه قبل أن نحاكم المصريين الذين سافروا للعراق أو فلسطين أو للدول العربية سعياً وراء الرزق وقبل أن نصفهم بالبطولة أو ندينهم بالعمالة علينا أن نبحث في الدوافع التي قذفتهم للمجهول ليعودوا إلينا في صناديق زنك أو لتنتشر أشلائهم بعيداً عن مصر .

الظروف التي أجبرت المصريين على الهجرة:
لقد أدت سياسات الرأسمالية التابعة وتطبيق توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير واتفاقيات منظمة التجارة العالمية إلى ارتفاع معدلات البطالة بشكل غير مسبوق في مصر وانفجار التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور خدمات التعليم والصحة في ظل تخلى الدولة عن تقديم الخدمات المجانية لصالح القطاع الخاص الذي يتاجر في كل شئ بدء من السيراميك والهواتف المحمولة وانتهاء بتجارة البشر ، حيث عرفنا تجار التأشيرات ومكاتب السفريات الوهمية ومراكز بيع الأعضاء.
لقد سافر المصريين سعياً وراء الرزق فتلقفتهم شركات توظيف الأموال بالعباءة الإسلامية ودمرت مدخراتهم التي جمعوها بعرق السنين ومرارة الغربة ، ثم تفجرت مشكلة الإسكان والتحول من التأجير إلى التمليك فوضع المصريين مدخراتهم في شقق اكتشفوا بعد ذلك إنها بنيت مخالفة للمواصفات نتيجة الفساد ، كما حدث في انهيار عمارة عباس العقاد.وما جمعوه من دولارات بالعرق والدم ضاعت قيمته أمام تخفيض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار نتيجة تنفيذ سياسات مؤسسات التمويل الدولية فخسروا كما يقال بالعامية المصرية ( الجلد والسقط ) أي خسروا كل شئ.

إن المصريين غير مسئولين عن السياسة الاقتصادية الحكومية التي دفعت بهم للغربة وأهدرت مدخراتهم وشقاء السنين، وغير مسئولين عن سياسات الإفقار والتبعية التي تجبر البعض على الاستمرار في جحيم الغربة وعدم العودة إلى نار البطالة والغلاء. لقد قدم فيلم العاصفة وبعبقرية كبيرة كيف يجبر المصري على قتل أخوه المصري حيث كان احد الأبطال مجند في الجيش المصري الذي سافر للكويت وأخوه الآخر سافر للعراق وتطوع في الجيش العراقي من اجل الإنفاق على أسرته وأخوه الذي يقتله على الضفة الأخرى وأنتهي الفيلم بمظاهرة أمام جامعة القاهرة تهتف " يادى العار يادى العار، مصري بيضرب أخوه بالنار".
لقد عكست حوادث خطف وقتل المصريين في العراق كيف أجبرت الظروف الاقتصادية المتردية المصريين على الهجرة وبيع أنفسهم في سوق النخاسة من أجل ضرورات الحياة!!! فمنهم من يخدم الأمريكان ومنهم من يخدم عصابات القتل والنحر من اجل لقمة العيش المغموسة بالدم.

اختلاط المفاهيم
لقد عكست الأحداث الأخيرة وجود لبس لدي العديد من المصريين حول ساحة الجهاد الرئيسية واستغل البعض الشعور الديني والقومي في الدفع بهؤلاء الشباب المتحمس إلى ساحات القتال كما حدث في فترات سابقة وبدعم ومباركة الحكومة التي دفعت بشباب الجماعات الإسلامية إلى أفغانستان لتتخلص منهم تبعاً للخطة الأمريكية فعادوا إليها مفخخين ، ليدفع الشعب المصري مرة أخري نتائج حماقة وتبعية الرأسمالية المصرية لخطط الأمن الأمريكية.
وخلال الفترة الأخيرة وأمام انهيار النظام العربي وركوع الأنظمة العربية أمام السياسات والمخططات الأمريكية والصهيونية ، تدافع الشباب المصري المتحمس هرباً من الجحيم الرأسمالي التابع بحثاً عن موت مشرف ينشدون فيه الجنة ونعيمها !!! فسقط منهم العديد في مختلف بقاع الأرض من البوسنة إلى الشيشان ومن العراق إلى فلسطين.

إن سيادة وصعود الخطاب الإسلامي والقومي في ظل ضعف وخفوت الخطاب اليساري الطبقي التقدمي أدي لحدوث لبس يدفع بالآلاف من المصريين إلى الموت في أرض الغربة طلباً للشهادة رغم أن دمائهم الطاهرة تذهب سدي ، إن تحرير فلسطين وتحرير العراق لا بد وان يمر بتحرير مصر ، فمنذ وقعت مصر اتفاقية الذل والعار في كامب ديفيد كانت مقدمات انهيار النظام العربي والذي نعاني منه حتي الآن ، ولن تلعب مصر دور إيجابي تجاه القضايا الوطنية والقومية قبل أن تتحرر هي نفسها من الرأسمالية التابعة ، وتستعيد دورها ومكانتها المفتقدة.
إن النظام الرأسمالي التابع الذي يحكم في مصر أنتهي دوره وأصبح اكبر معوق للتنمية والتقدم ، وفي نفس الوقت لازالت قوي الإصلاح والتغيير الراديكالي ضعيفة ومفككة ومهمشة في الشارع السياسي . وهو ما يجعل النظام يعربد ويستمر في طريق الاستبداد والإفقار والتبعية وهو مطمئن لعدم وجود قوي فاعلة توقف مسيرة التبعية.

إن كافة مشاريع الإصلاح السياسي المقترحة ستظل مجرد حبر على ورق لا تدخل في مجال التنفيذ طالما ظلت قوي التغيير بعيدة عن المشاركة وطالما ظلت مباراة التغيير دائرة بين النظام بأجهزته وتراثه الاستبدادي القمعي من ناحية ، وفريق الإصلاح الضعيف والمعزول من ناحية أخري، وطالما ظلت الجموع المصرية عازفة عن المشاركة في اللعب وبدون إقناعهم بالنزول للمشاركة ستظل معارك الإصلاح كلامية.
إن علينا تحرير مصر قبل الحديث عن تحرير فلسطين وتحرير العراق ، وقبل أن نحاكم الشهداء المصريين في العراق وفلسطين والمعتقلين في مختلف الدول العربية والموتى في قوارب الموت عبر المتوسط علينا أن نحاكم النظام الذي دفعهم لهذا .

قبل أن نتحدث عن الإصلاح السياسي علينا أن نعد القوي القادرة على الضغط من اجل الإصلاح وفرضه لأنه لن يأتي منحة أو هدية ، ولن يتنازل المستبد الظالم عن استبداده تحت اى ضغوط في ظل غياب القوي الفاعلة وطالما ظلت قوى التغيير مغيبة والطلائع الفكرية والسياسية معزولة في الغرف ومحرومة من النزول والالتحام بالقوي الفاعلة سنظل ندور في حلقات مفرغة ، وسيظل المصريين المتحمسين يموتون في الغربة دفاعاً عن العروبة المستباحة خشية أن نصبح نحن يهود التاريخ ونعوي في الصحراء بلا وطن أو مأوي كما علمنا مظفر النواب

ولي وطن آليت ألا أبيعه                ولا أرى غيري له الدهر مالكاً

إلهامي الميرغني
21/9/2004
eme55@hotmail.com