الفساد في بر مصر
قلم : إلهامي الميرغني

تعلن مصر بين الحين والأخر عن كشف قضية من قضايا الفساد الكبرى حتى أصبحت ضمن تصنيف منظمة الشفافية الدولية في موقع متأخر كما أثيرت عدة وقائع حول تحول مصر إلى أحد انشط مراكز غسيل الأموال في العالم .ولقد مر الفساد في مصر بعدة مراحل منها فساد القصر والأحزاب قبل 23 يوليو 1952 وفساد ما بعد 1952 .
وإذا تأملنا فساد ما بعد الثورة تبعاً لرؤساء الدولة سنجد إن الفساد أتخذ طابع مختلف بين فترة وأخرى فخلال الحقبة الناصرية أقتصر الفساد على بعض رجال الحكم خاصة من العسكريين الذين تولوا وظائف مدنية وعرفنا قضايا مثل سرقة مجوهرات أسرة محمد على وتجاوزات لجان تصفية الإقطاع ثم فساد إدارات بعض شركات القطاع العام ولكن تم التغاضي عنها أمام المنجزات الناصرية في كافة المجالات . وحين بدء الرئيس السادات مرحلة الانفتاح عقب حرب أكتوبر بدء الفساد يتحول من الرشوة والعمولات واستغلال الوظيفة في الإثراء غير المشروع إلى استغلال النفوذ والمحسوبيه وانتشار الوساطة في كافة المجالات وسمعنا الكثير من التجاوزات من أسرة الرئيس السادات نفسه وقدم شقيق الرئيس للمحاكمة في أول حكم الرئيس مبارك ، كما تمت محاكمات لوزير الكهرباء الأسبق أحمد سلطان ووزير الطيران في قضايا عمولات منها قضية شركة لوكهيد الشهيرة .
يمكن أن نجد عدة أسباب للفساد في الحقبة الساداتية أهمها :
1 ـ التحول السياسي والاقتصادي دون تهيئة القواعد الاقتصادية لهذا التحول .
2 ـ الانفتاح بلا ضوابط مما فتح الباب لمزيد من التجاوزات .
3 ـ تفجير طاقات الاستهلاك لدى المواطنين العاديين وظهور شراهة استهلاكية.
4 ـ فساد الإدارة الحكومية وهى مرض تاريخي في تطور البيروقراطية المصرية.
5 ـ تعدد التشريعات والقرارات الوزارية والبحث عن مسارات للتحايل على هذه التشريعات والأنظمة .
6 ـ غياب الديمقراطية الحقيقية وسيادة صورة ممسوخة للتعددية الحزبية الفاقدة للقدرة على الحركة خاصة فيما أعقب انتفاضة الجياع في 18 يناير 1977 .
هكذا كان الفساد خلال الحقبة الساداتية ظاهرة مرتبطة بالانفتاح بلا ضوابط وغياب الديمقراطية الحقيقة ولكن حين جاء الرئيس مبارك للحكم أعلن مبدأ ( طهارة اليد ) وقدم بعض قضايا الفساد لامتصاص السخط الذي تراكم تجاه حكم الرئيس السادات مثل : قضية عصمت السادات ( شقيق الرئيس الراحل ) ، وقضية رشاد عثمان أحد رموز الحقبة الساداتية ثم قضية توفيق عبد الحي المعروفة إعلامياً بقضية الأغذية الفاسدة وقضية تجار العملة المعروفة بقضية سامي على حسن ثم أعقب ذلك فضيحة ماسمى بشركات توظيف الأموال .
هكذا حاول الرئيس مبارك أن يصفى حسابات الماضي وموروث الفساد عن كافة العهود السابقة .
ولكن بعد مرور عقدين من حكم الرئيس مبارك نستطيع أن نتأمل الظاهرة في مطلع القرن الحادي والعشرين وكيف طور الفساد من آلياته ومجالات عمله حتى تحول من مجرد ظاهرة عابرة إلى جزء أصيل من النظام السياسي والاقتصادي في مصر .
رغم تعدد الأجهزة الرقابية في مصر بدء من مجلس الشعب والرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات ومروراً بمباحث الأموال العامة التابع للشرطة و جهاز المخابرات العامة المصرية تعددت قضايا الفساد حتى تحول من مجرد ظاهرة محدودة إلى جزء من آليات الأداء السياسي والاقتصادي وبعد أن كانت قضايا الرشوة واستغلال النفوذ تقدم صغار موظفي الدولة صار المتهمون وزراء ولواءات شرطة وكبار موظفي الدولة مثل : قضية عبد الحميد حسن محافظ الجيزة الأسبق وقضية يحي حسن محافظ المنوفية الأسبق وقضية ماهر الجندي محافظ الجيزة الأسبق ، وقضية سكرتير وزير الثقافة وقضية الدكتور محي الدين الغريب وزير المالية الأسبق ، وقضية رئيس مجلس إدارة الشركة القومية للأسمنت ، وقصية عبد الوهاب الحباك رئيس الشركة القابضة للصناعات الهندسية وقضية نواب القروض وتمتد القائمة وتتسع ويتضخم عدد القضايا ويتضخم حجم الأموال محل القضايا لتصل إلى مئات الملايين في قضايا رؤساء شركات القطاع العام وتصل إلى المليارات في بعض القضايا مثل قضية نواب القروض .
ولو حاولنا التعرف على أسباب هذا التحول في منظومة الفساد من مجرد أحد مظاهر الأداء إلى آلية رئيسية من آليات العمل السياسي والاقتصادي وبالإضافة إلى أسباب الفساد خلال الحقبة الساداتية والممتدة خلال المرحلة المباركية نجد التالي :
1 ـ غياب الديمقراطية بمعناها الحقيقي المتضمن للتغيير وتداول السلطة وقصر الديكور الديمقراطي على صحف للصراخ والإثارة ، وما قضية جريدة النبأ وانتشار الصحف الصفراء إلا جزء من هذه الظاهرة ، مع حصار الأحزاب داخل المقرات الحزبية وفقدانها للتواجد في الشارع وفقدان الأمل في التغيير الديمقراطي عبر صناديق الانتخاب في ظل التزوير الفاضح والتدخل السافر في جميع الانتخابات البرلمانية والنقابية وآخرها ما حدث في انتخابات النقابات العمالية .

2 ـ التوسع في الحصول على القروض والمعونات الأجنبية وما سببته من إفساد لموظفي الدولة على جميع المستويات واعتبار أداء الموظف العام لعمله شئ يستحق عليه المكافأة مهما كان مصدرها . ولعل بعض منظمات حقوق الإنسان وتمويلها الأجنبي كانت مظهر لتسرب الفساد إلى النخب المثقفة والطلائع الشعبية وانشغالها في مشروعات إصلاحية بعيداً عن التغيير الراديكالي الذي كانت تنشده في الماضي .

3 ـ سياسة الخصخصة وتحويل شركات القطاع العام إلى القطاع الخاص وما يشوب هذه السياسة من فساد في تقييم الشركات بشكل فاضح لصالح بعض المستثمرين سواء من الداخل أو الخارج . ولعل ما أثير حول بيع بعض الشركات مثل البيبسى كولا والمراجل البخارية وغيرها لدليل على إهدار جزء من ثروة مصر لصالح بعض المصالح الضيقة .

4 ـ استمرار عجز الميزان التجاري والتوسع في الاستيراد بلا ضوابط حتى وصل حجم الواردات إلى 17 مليار دولار في عام 1999/2000 وليصل عجز الميزان التجاري إلى 11.4 مليار دولار .

5 ـ التوسع في الإقراض المصرفي بلا ضوابط حتى تضخمت مديونيات القطاع الخاص وهرب كثير من رجال الأعمال للخارج وعجز آخرين عن سداد ديونهم .

6 ـ زيادة الارتباط بين الجنيه المصري والدولار الأمريكي وتزايد المضاربات على الجنيه المصري من شبكات دولية لغسيل الأموال واستغلال شركات الصرافة في هذه العمليات في ظل غياب تشريع لمراقبة غسيل الأموال .

7 ـ الحمى الاستهلاكية التي تصاعدت خلال السنوات الأخيرة وزيادة الدعاية والإعلان لمختلف المنتجات العالمية ويكفى أن نتأمل انتشار الهواتف المحمولة والفئات التي تقتنيها لنعرف كيف أثرت العادات الاستهلاكية والضغوط الأسرية على الكثيرين للعمل ضمن آلية الفساد .

8 ـ تخلى الدولة عن تقديم العديد من الخدمات العامة خاصة في مجالي التعليم والصحة وانتشار التعليم الخاص والمستشفيات الخاصة وما تمثله من ضغوط على ميزانية الأسرة المصرية .

9 ـ انتشار الواسطة والمحسوبية وسيادة الشعور بأن القانون لا يطبق الإ على الفقراء بينما الاستثناءات هي من نصيب العائلات الحاكمة التي يزداد نفوذها لتشكل دوائر الثروة والحكم في مصر ولتعمل بشكل خارج القانون وفوق القانون.

10 ـ سيادة الشعور بالاغتراب لدي المواطن العادي وبان القانون لا يطبق سوى على الفقراء وظهور قضايا فساد بين القضاة مما يؤدى لشعور بغياب العدالة وضعفها وسقوط قطاعات واسعة من الشباب فريسة البطالة والمخدرات .

لكل هذه الأسباب تحول الفساد من ظاهرة عارضة في مصر إلى جزء أصيل من آليات النظام السياسي والاقتصادي الحاكم ورغم تعدد الأجهزة الرقابية وتقديم عدة قضايا للمحاكمة وصدور أحكام مشددة فيها سوف يظل الفساد سمة من سمات الرأسمالية المصرية مالم تقدم على إحداث تغييرات جذرية في سياسات الحكم تبدأ بوجود ديمقراطية حقيقية يشعر من خلالها المواطن بالقدرة على التغيير ويشعر الجميع انهم متساوون أمام القانون وأنه لا يوجد شخص فوق القانون ، وبدون ذلك سنظل نطالع قضايا الفساد التي تنشر في مصر كما نتابع بعض مسلسلات التليفزيون المصري التي تنشر الملل . ولله الأمر من قبل ومن بعد .

إلهامي الميرغني
20/11/2001
eme55@hotmail.com