حسم أمر الترشيح داخل فتح بإختيار اللجنة المركزية والمجلس الثوري للحركة محمود عباس – أبو مازن كمرشح وحيد لفتح لخوض الإنتخابات "الرئاسية" المقبلة يوم 09/01/2005 وبإجماع شبه كامل خلافا للتوقعات، بل وبإعتباره الأصلح لقيادة الحركة ومن ثم السلطة في المرحلة القادمة، وبدأت الأقلام تكتب وتمجّد بتاريخه ونضاله كقائد ومؤسس ومنقذ من فساد المرحلة السابقة التي بدأ "تشريحها" من قبل من إستماتوا في الدفاع عنها ولسنوات طويلة.
بالطبع من واجبنا إحترام قرارات المركزية والثوري حتى وإن كان جل الأعضاء فيهما من القدماء المتربعين لسنوات وحتى وإن كانت الإنتخابات الفتحاوية لم تتم منذ 15 سنة، لأنه وببساطة هذا الإجماع فيه تحقيقا للمصالح بالمنظور الفتحاوي البحت، ولكن مع هذا الإحترام يحق لنا أن نتساءل عن أساس وبرنامج عباس الذي طرحه والذي بهر وأعجب أعضاء حركة فتح كي يجمعوا عليه.
لن أفترض ولن أحلل بشكل مزاجي كما يحلو للبعض دائما إتهام الآخرين، ولن أقفز لإستنتاجات، بل سنأخذ بظواهر الأمور ونفترض حسن النية، وسأستجيب لنداء أحد الكتاب الذي كتب تحت عنوان "إرحموا محمود عباس" أي بمعنى منحه فرصة لإثبات نفسه لقيادة "سفينة السلطة" لبر الأمان، ولكن مرة أخرى وحتى يخرج عباس ببرنامج محدد وواضح، وبغض النظر عن شرعية الإنتخابات في ظل حراب الإحتلال، والهدف الرئيسي من إجرائها، لا يمكن أن نرى محمود عباس إلا بشكل المرشح غير المطمئن الباعث على القلق الشديد والتشاؤم إن لم يكن أكثر من ذلك!
لا يمكن أن نراه إلا من خلال مواقفه المعلنة والصريحة والتي يصر عليها في كل مناسبة، وكذلك الإشارات التي بدأ بإرسالها منذ رحيل عرفات والتي لا تنبأ بخير، وقبل أن يعترض أحدكم هذه هي المواقف والإشارات ولنناقشها بهدوء وبعيدا عن العواطف والتعصب الحركي:
محمود عباس كان من أوائل من خرق المحرمات، يوم كان خرقها جريمة وخيانة، وربما كان أول من وقع إتفاقية من الجانب الفلسطيني مع الجنرال ماتيتياهو بيليد التي أدت إلى إعلان مبادئ "السلام" مع (إسرائيل) على أساس الحل بإقامة دولتين، المعلن في مطلع 1977.
أيضا أجرى محادثات سرية - كعادته عام 1989- بوساطة هولندية لإيجاد "تسوية" ليقود بعدها بسنوات المفاوضات السرية طاعنا الوفد المفاوض بقيادة حيدر عبد الشافي، والتي أفضت لإتفاق أوسلو المشؤوم والذي وقعه بنفسه عام 1993.
في عام 1995 صاغ وثيقة عباس – بيلين والتي كانت أول تصريح منه بالتنازل عن الثوابت كالقدس واللاجئين.
في عام 1998 وبعد التوقيع على إتفاق واي بلانتيشن ذكر حرفيا في وصفه لشارون شريكه اليوم: "شارون الطيب الذي تغير ولم يعد ذلك الرجل الذي عرفناه في صبرا وشاتيلا " وأن " الرجل عادي وخارج المفاوضات يصبح أقرب إلى الفلاح منه إلى العسكري وأنه أي شارون :عبر عن تقديره للإنسان الفلسطيني".
شكك عباس وبعد أيام فقط من إنطلاق الإنتفاضة بها قائلا: "الإنتفاضة الفلسطينية لن تحقق نصرا بل هي رسالة للإسرائيليين بأنهم لا يجب أن يفكروا بهذه الصورة في رفض تطبييق الشرعية الدولية"، مع ملاحظة أن ذلك كان قبل إتهامه الشهير بعسكرة الإنتفاضة وقبل أن تطلق رصاصة واحدة في وجه المحتل.
المحطة الأهم كانت في محاضرة بدعوة من اللجان الشعبية بقطاع غزة نشرت في الصحف يوم 02/12/2002 وجاء فيها:
- الإنتفاضة دمرت كل ما بنيناه في أوسلو وكل ما بني قبل ذلك
- علينا أن نقول كفى للإنتفاضة - أن نسأل ماذا حققنا في هذين العامين
- حصلنا في هذه الإنتفاضة فقط على الدمار المطلق
- الإنتفاضة سببت هروب رأس المال والإستثمارات من مناطق السلطة
- الشعب الفلسطيني بات على خط الفقر بسبب الإنتفاضة
- لم يفت أبو مازن أن يثني على شارون واصفا إياه بـ" الزعيم الصهيوني الأهم منذ هرتزل"
- لم يسلم فلسطينيوا الداخل (عرب 1948 كما يحلو له تسميتهم) من هجوم محمود عباس حيث قال: " لقد أضروا بحق العودة على وجه الخصوص فالإسرائيلييون سيقولون مثل هؤلاء العرب لا نريد المزيد عندنا"، ولم يحمل في لقائه الإحتلال أية مسؤولية عن الوضع رغم المآسي والكوارث التي تسبب بها.
· محمود عباس تم إختياره بالإسم ليصبح أول رئيس وزراء لحكومة السلطة بتاريخ 29/04/2003 ليكون تصريحه الأول في لقاء العقبة المعروف التباكي على عذابات الآخرين متناسيا عذابتنا على أيدي هؤلاء الآخرين، وليستمر بعدها دون كلل أو ملل في التهجم وإدانة الإنتفاضة كلما سنحت له الفرصة، ليستقيل من جميع مناصبه داخل فتح والمنظمة والسلطة في شهر سبتمبر/أيلول من العام الماضي.
هذه كانت أهم مواقفه التي أصر عليها أكثر من مرة وبالطبع هناك غيرها الكثير ولكني هنا لست بصدد سرد تاريخ حياته المليء بالمواقف المشابهة.
ولكن، وما أكثر كلمة لكن في هذا الموضوع، لنفترض جدلا أننا تناسينا الماضي وتغاضينا عن كل مواقفه وقررنا فتح صفحة جديدة من يوم مرض عرفات ومن يوم ظهر عباس فجأة قبل يوم واحد من تسفير عرفات لباريس ليقفز ويسيطر على سلطة أوسلو ثم ليعين بعد ساعات من إعلان وفاة عرفات رئيسا للجنة التنفيذية لمنظة التحرير الفلسطينية بعد أن رشحت الأنباء عن توقيعه صفقة بالملايين مع سهى الطويل/عرفات، حتى وإن فعلنا ذلك سنجد أن ما صدر من محمود عباس منذ ذلك الحين يؤكد مواقفه السابقة بل يصر عليها وهذه بعض الحقائق كما حدثت خلال الأيام القليلة الماضية:
ما أن إستقرت له الأمور حتى بدأ محمود عباس بإنتقاد مرحلة سلفه كحديثه عن ضرورة وقف الفوضى خاصة فوضى السلاح التي لا يوجد أي متهم فيها إلا ذراعه الأيمن دحلان الذي يجمع كل أبناء فلسطين أنه كان وراء أحداث شهر يوليو/تموز الماضي والزعرنات التي رافقتها.
كان من أول ما قام به عباس تقريب أزلام السوء كعبد ربه الذي بدأ يروج لأفكاره الممسوخة، ودحلان الذي يستعرض ليل نهار وينظر في كل أمر، وأخيرا إعادة قائد البحرية المستقيل منذ أكثر من مائة وعشرين يوما إلى عمله علما أن ياسر عرفات كان قد عين قائدا للشرطة البحرية ونائبا له بعد أن قدم القائد السابق طلب الإستقالة احتجاجا علي قرار عرفات بتعيين موسى عرفات قائدا للأمن العام في قطاع غزة، لا لشيء إلا لأنه من مؤيدي دحلان.
حتى هذه اللحظة لم يصدر تقرير رسمي عن ملابسات مرض وتسفير ووفاة عرفات ولا يوجد إهتمام حقيقي لكشف الحقيقة مما إستدعى إعطاء مهلة شهر للحكومة من قبل التشريعي للكشف عنها.
رغم إنتقاد عباس الدائم لعرفات وإستفراده بقيادة المنظمة والسلطة ها هو الآن يتناسى ذلك لينافس على منصب "الرئيس" إضافة لمنصب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، أي أن المباديء عنده تتغير حسب الظروف والمصالح.
بدأ عباس ممارسة هوايته المفضلة بفتح قنوات إتصال سرية مع الإحتلال رغم أنه ليس رئيسا للسلطة ولم يتم إنتخابه بعد، وهذا ما أكده رعنان غيسين يوم 24/11/2004 حين قال أن المفاوضات بدأت فعلا ولكن بعيدا عن الأضواء.
كان من أوائل من إجتمع معهم عباس "مبادروا" وثيقة جنيف التي يجمع الشعب بأكمله تقريبا على إنحطاط مستوى الموقعين عليها وعلى حجم التنازلات الهائلة فيها عن الثوابت والمباديء.
كان رد عباس على تصريحات شارون التي طالب فيها "بوقف عمليات التحريض البغيضة في وسائل الإعلام ومناهج التعليم" هو ببساطة أن هذه المطالب هي من إستحقاقات خارطة الطريق التي يجب تطبيقها مقرا بالتالي بصحة وشرعية مطالب شارون.
إستبعد محمود عباس منافسيه بطريقة أو أخرى فأصر على عقد إجتماعات حركة فتح في الداخل وبالتالي إستبعد الأعضاء المعارضين له ممن لا يستطيعون الدخول للأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك قيادات الخارج ومنهم فاروق القدومي.
أيضا وبدعم دحلان والدول الأخرى إستبعد مرشحين آخرين من فتح من أهمهم مروان البرغوثي موعزا للبعض بإطلاق التصريحات كبسام أبو شريف الذي قال: "إختيار أبو مازن هو مصلحة فلسطينية عليا" وكذلك جبريل الرجوب الباحث عن موقع له في وجود منافسه اللدود دحلان، عندما دعا البرغوثي لإعادة النظر في ترشيحه لنفسه وإن كان هذا الترشيح يخدم القضية الفلسطينية!
بالتأكيد ستحمل الأيام القادمة مواقف أخرى أشد خطورة ووطأة، ولهذا أعيد السؤال الذي إبتدأت به الموضوع: على أي أساس تم ترشيح عباس عن حركة فتح؟ وهل لعب الكبار دورا في ذلك كوزراء خارجية الدول الكبرى الذين يتقاطرون على فلسطين يوميا وبدأوا في التعامل مع عباس وكأنه الرئيس دون منازع، مطالبين الإحتلال بضمانات وتسهيلات وافق عليها الإحتلال رغم أنها كانت من المستحيلات قبل شهر واحد فقط! هل هذا حرص على الشعب الفلسطيني وخوفا عليه أم تمهيدا للطريق للرئيس القادم المرضي عنه؟
هل من المعقول أن يغمض كوادر فتح أعينهم عن حقيقة الرجل من خلال مواقفه السابقة ويقبلوا بترشيحه من قبل المركزية والثوري ليثبتوا ما يتردد أن أبناء فتح سيصوتوا لمرشح حركتهم حتى لو كان شارون نفسه! هل يعقل تغلييب المصلحة الفئوية الضيقة على المصلحة العامة؟
ربما كان لدى البعض إجابات لا نعرفها ولكن حتى يثبت العكس لا نملك إلا أن نقرأ الموضوع من عنوانه، وعنوانه سيء ولا يبشّر بخير.
لابد لكل من يحق له الإنتخاب، ومرة أخرى بغض النظر عن رأيي في الإنتخابات وفي شرعية السلطة ككل، أن يتجرد من الإنتماء التنظيمي ويمارس حقه بما يرضى ضميره ومن خلال تحقيق المصلحة العليا.
الرئيس القادم تم تنصيبه والموافقة عليه حتى قبل الإعلان عن موت عرفات والإنتخابات هي فقط لإضفاء الشرعية على من تم إختياره لنعيد إسطوانة الرئيس الشرعي والمنتخب للشعب الفلسطيني، وليستطيع هذا الرئيس "الشرعي" التوقيع وتمرير التنازل عما تبقى من ثوابت وحقوق.
أما ما أراه شخصيا فهو أنه طالما كان سقف الإنتخابات هو أوسلو ونتائجها وإفرازاتها، فالفائز فيها خاسر ومكبل بقيود هذه الإتفاقات ولا يهم إن كان عباس أو غيره، والخاسر أيضا هو الشعب الفلسطيني وإنتفاضته، والحل هو في إنهاء سياسة التفرد والحزب الواحد الأوحد وفي قيادة جماعية حقيقية تتبنى خيار التحرير والعودة على مباديء وحقوق الشعب المشروعة.
د. إبراهيم حمامي
لمراسلة د. إبراهيم حمامي
25-11-2004