تضاربت الأنباء التي ترشح من داخل مبنى المقاطعة في رام الله حول صحة عرفات والتي لاشك أنها آخذة في التدهور، وتضاربت أيضا التوقعات والشائعات المتعددة المصادر سواءا الفلسطينية أو "الإسرائيلية"، وأصبح عرفات ومن جديد حديث الساعة وصحته طغت على ما دون ذلك حتى وإن كان إجتياح نابلس وقصف خان يونس وتجريف رفح والتي تزامنت جميعها مع المرض الرئاسي.
مع هذه الأنباء والشائعات بدأت الجوقة "الرئاسية" من مستشارين ومقربين ومطّلعين على خفايا وأسرار "المقاطعة"، بدأت عزفها النشاز بالنفي والإنكار والإستنكار لأن "الرئيس" بألف خير وصحته "زي البمب" وأن ما يشاع عن مرضه "مؤامرة للنيل من صموده" وبرزت مواهب البعض الطبية لتعلن أن الأمر لا يتعدى "إنفلونزا حادة" بدأ سيادته بالتعافي منها!
تناسى هؤلاء أن هذه الإنفلونزا "الرئاسية" إستدعت حتى الآن إستشارة أطباء من الأردن ثم مصر وأخيرا من تونس، و خبراء في أمراض الدم، وأمراض التلوث، ومشاكل الجمجمة، ومشاكل القلب وضغط الدم والمشاكل المعوية. حتى لحظة مرض سيادته لم أكن أعرف أن أطباء فلسطين المشهود لهم في كل العالم عاجزون عن معالجة "إنفلونزا"، اللهم إلا إذا كانت إنفلونزا خاصة "رئاسية" أو "نووية" أو ربما أنتجت خصيصا في معامل الأعداء للإضرار بالرئيس!
التساؤل حقيقة ليس عن طبيعة المرض أو الإنفلونزا ولكن عن طبيعة هذه الجوقة ممن يتقنون فنون النصب والكذب والإحتيال والمحاولات اليائسة البائسة للضحك على عقولنا خاصة عندما يتعلق الأمر بشأن من شؤون "المقاطعة"، حيث كانت آخر محاولاتهم بعد إنفضاح أمرهم وأمر الفحوصات التي لها أول وليس لها آخر التي يخضع لها رئيسهم أن خرجوا علينا بنكتة تشخيصية لتبرير الفحوصات قائلين: "الفحوصات الطبية تُجرى لأنه ينبغي ان نتذكر بأنه رجل كبير يعيش منذ ثلاث سنوات في ظروف شديدة دون هواء نقي ودون أشعة الشمس"! يا سبحان الله ظروفه شديدة دون هواء أو شمس – وهل المقاطعة ممنوع عنها الهواء والشمس؟ وماذا عن الشعب المسكين الذي ليس لديه شيء مقارنة بما يحصل عليه سيد المقاطعة يوميا؟ حسب تشخيص هؤلاء الضالعين في أمور الطب والمعرفة فإن الشعب برمته يحتاج للعلاج ولأطباء العالم جميعا ولفحوصات الكون برمته! أي إستهزاء بعقول البشر هذا؟
هؤلاء جميعا يتصرفون وكأن عرفات أو غيره سيخلد إلى أبد الآبدين وأنه معصوم عن المرض والخطأ رغم أنه في أرذل العمر ويعاني من علل كثيرة كالشلل الرعاش والألزهايمر وإلتهاب المرارة وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، محاولين القفز عن حقيقة هامة أنه كغيره من البشر يشيخ ويمرض ويعتل ثم يموت!
إن سياسة الإخفاء والإنكار والنفي والإتهام والإدعاء لم تعد مجدية لأن إرادة الله أقوى منهم جميعا، والقضاء والقدر لا مهرب منه وتصريحاتهم الجوفاء لن تنطلي على أحد لأن رئيسهم مريض، وصحته آخذة في التدهور، سواءا كان السبب "إنفلونزاهم الرئاسية" أو حسب ما ذكرته مصادر عديدة سرطان الأمعاء أو الرئة أو غيرها، والأفضل لهم أن يواجهوا حقيقة مرض عرفات، وأن يصارحوا الجميع بها، وأن يبحثوا عن حلول لمشاكل الشعب ومصائبه التي تسببوا فيها، بدلا من دفن الرؤوس في الرمال وترك الميدان لسلطات الإحتلال لتقول ما تريد وتبث ما تشاء من إشاعات وصلت لحد مناقشة السماح لعرفات بالمغادرة لإجراء عملية جراحية زاعمين أنهم شبه متأكدين أنه لن يعود معافى.
قضية فلسطين وشعب فلسطين لن تتوقف عند شخص مهما بلغت مكانته لدى البعض، ومحاولات ربطها بمصير فلان أو علان هو تتفيه لها وتحقير لنضالات وتضحيات هذا الشعب المعطاء. من حق شعبنا أن يعرف حقيقة ما يجري دون مواربة ومن حقه أن يقرر من يقوده إن عجز البعض عن ذلك أو فقد الأهلية لسبب أو آخر، وأرحام أمهات فلسطين لم تتوقف عن الإنجاب بعد.
لقد رحل من هو خير منه ومنا جميعا، رحل سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام، ورحل أيضا من هم خير منه من الخلفاء الراشدين، ورحل من هو خير منه من عظماء القادة أمثال صلاح الدين وسيف الدين قطز وعز الدين القسام وغيرهم، لم ينته الكون لمرض أو رحيل أحد ولم يتوقف الزمان، بل إستمرت الحياة والعطاء.
إن كان مريضا فلما الإنكار؟ وإن كان سليما معافى فلماذا هذه الضجة ووفود الأطباء؟ وإن كان سيرحل فهو ليس الأول ولن يكون الأخير! الحقيقة الساطعة هي أن الجميع يدرك أنه مريض بسبب ما يشاهدون بأنفسهم أو ما يسمعون، والجميع يدرك (إلا جوقة المقاطعة) أن صحة عرفات آخذة في التدهور وهو ما يستطيع أن يلاحظه أصغر طفل فلسطيني له عقل أو إدراك.
لنتخلص من عقلية الزعيم الأوحد الخالد المخلد الذي لا يخطأ ولا يمرض ولا يرحل، ولتصمت الأبواق التي تنعق صباح مساء بترّهات القول والكلام، ولنتذكر أنها "لو دامت لغيرك لما آلت إليك" ولنتذكر أن المرض والموت حق حتى وإن كرهناه وأنه لن يبقى إلا وجه الله الذي لا يموت.
عين الشمس لا تغطى بغربال والقضاء والقدر وإرادة الله سبحانه وتعالى فوق الجميع، والدنيا لم تدم لغيرنا لتدوم لعرفات أو غيره وهو راحل إن عاجلا أو آجلا ولن يبقى له إلا ذكره وأعماله الصالح منها والطالح.
اللهم إشفي مرضانا جميعا وخفف عنهم وعنا الذنوب والآثام والطف بنا وبهم وإغفر لنا ولهم في شهرك المبارك هذا، آمين
د. إبراهيم حمامي
لمراسلة د. إبراهيم حمامي
24-10-2004