في حديث نشرته صحيفة دير شبيغل الألمانية يوم الإثنين 21/02/2005 قال عبّاس فيما قال: "أنه مستعد للتفاوض بشأن المكان الذي سيعود إليه اللاجئون، مضيفاً: هناك 5 ملايين لاجئ نعرف أنهم لن يعودوا جميعاً، مشيرًا إلى أن كثيرين منهم لا يريدون العودة لأنهم يعيشون حياة كريمة في الولايات المتحدة أو سعداء في الأردن ولكن يجب تعويضهم ، على حد وصفه"، وأضاف "اننا واقعيون وقد تعلمنا من تجربة قمة كامب ديفيد الفاشلة بأنه لا يمكن حل مشكلة كهذه ، عمرها قرن خلال 16 يوما ، فقد يحتاج الأمر سبعة إلى ثمانية أشهر وربما سنة كاملة للوصول إلى حل شامل".
هذا الحديث الخطير في مضمونه ومعناه ليس الأول بل هو حلقة في سلسلة طويلة من محاولاته المستميتة لتهيئة الرأي العام في الداخل والخارج لقبول تنازلات يخطط لها أولها حق العودة، رغم كلامه المعسول أيام حملته الإنتخابية عن تمسكه بالثوابت، وبطريقة مموهة سبق وتطرقت إليها في موضوع تحت عنوان: "الإعلام الملهم وبرنامج عبّاس المبهم" بتاريخ 26/12/2004 حيث ذكرت: "ثم عرّج على قضية اللاجئين وقص الروايات عن أعدادهم وحتمية عودتهم، لكن وبدهاء شديد لم يشر إلى أين ستكون عودتهم، إلى ديارهم الأصلية أم إلى الدولة الفلسطينية القادمة، وهنا علينا أن نتذكر تصريحه الأخير لصحيفة المصور (بتاريخ 03/12/2004) أيضا: "انني لا اريد ان اغير ديموغرافيا الدولة “الاسرائيلية” ولكننا نطلب التوصل الى "حل" لمشكلة اللاجئين، علما أن برنامجه الإنتخابي الرسمي لم يتطرق لقضية اللاجئين بشكل منفصل بل ذكرها في النقطة الأولى كأحد الثوابت الوطنية ودون تفاصيل ودون التطرق لحق العودة لا لفظا ولا تطبيقاً: "وتحقيق حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفق القرار 194 وعلى أساس قرارات قمة بيروت عام 2002."
انبرت حينها الأقلام المعهودة التي لا تجيد سوى التطبيل والتزمير والتهليل والتمجيد، لدعم المرشح الأوحد وامتداح تمسكه بالثوابت، والمطالبة بإعطائه فرصة "ليجرب" فينا مرة أخرى علّه يكون خيرٌ من سلفه، وكالت هذه الأبواق الإتهامات لكل من حاول فضح التمويه العباسي المقصود، مركزة على أن من هو خارج الوطن بعيدٌ عن معاناة هذه الوطن، بل لا يحق له الحديث والكلام عن الوطن الذي أضحى بجهد هؤلاء إقطاعية خاصة لممارسة كل أنواع الرذائل والفساد، وحكراً لهم ليقرروا من هو الفلسطيني!
إنضم إليهم هذه المرة رئيسهم المفدى ليطلق العنان لقريحته وليضم صوته الى جوقتهم ليتحدث فيما ليس به علم، وليخوض في المحرمات، وليتجاوز الخطوط الحمر، وليعتدي على الحقوق المقدسة لستة ملايين لاجيء فلسطيني، ولا أقول عن جهل ولكن عن قصد وسبق إصرار ليضيف بعداً جديداً لحجم التفريط.
لم يكتف سيادة الرئيس بقبول التفاوض على حق العودة وتطبيقاته، وقبوله بالرؤية الشارونية حول "يهودية الدولة" وحرصه على توازنها الديمغرافي، إنما زاد عليها وهو المكشوف عنه الحجاب أنه يعلم أن كثير من اللاجئين لا يرغبون في العودة، وأنهم سعداء ويعيشون حياة كريمة ليس في الغرب فقط بل في الأردن ومخيماته، وهنا لابد من سؤاله وهو العليم بخبايا الأمور:
كيف توصل لهذه النتيجة الخطيرة؟ وعلى أي أساس قال ما قال ؟
كم إستطلاع للرأي أو استبيان أجرته سلطته الموقرة للاجئين في أماكن تواجدهم ؟
بل هل يعلم أرقامهم الدقيقة وأماكن تواجدهم ؟
هل يستطيع سيادته أن يخبرنا عن التركيبة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية لثلثي الشعب الفلسطيني في الشتات والمهجر ؟
هل وصل لمسامع سموه أن أياً من سفرائه الدائمين مدى الحياة قد زار عائلة فلسطينية واحدة معزياً في فقيد أو مشاركاً في فرح ؟
هل قرأ القرار 194، وهل يعرف المقصود من التعويض والفرق بين "و" و "أو" ؟
ألم يتناهى لسمعه الكريم أن حق العودة مقدس قانوني وممكن ؟
ألم يسمع بالعجوز الفلسطيني الشريف العفيف الذي رفض بيع بيته في القدس رغم الملايين المعروضة ؟
بأي صفة يتكلم سيادته بعد أن همّش وعن عمد الملايين الستة من اللاجئين ؟
ما الذي يعطيه الحق أن يعيش داخل فلسطين وهو اللاجيء في سوريا، بينما يقرر أن غيره لا يمكن عودتهم ؟
هل العيش الكريم والسعادة والراحة كما يدعي بديل عن الوطن ؟
إن كان الأمر كذلك فهل يقبل هو ومن معه من أصحاب القصور والفنادق والكازينوهات والحسابات البنكية المنتفخة والتي جمعت بكل الطرق والوسائل أن يبعوا وطنهم وأن يغادروه مقابل "التعويض" ؟
أم أن ما يحق لهم لايحق لغيرهم ؟
الواقعية التي تحدث عنها ألا تنطبق على "الديمغرافية الإسرائيلية"؟ أم أنه يرى بعين واحدة ؟
ألا يعلم سيادة الرئيس أنه كلما ابتعدنا عن فلسطين ازددنا تمسكاً وتعلقاً بها ؟
مرة أخرى أقتبس مما سبق وكتبته بتاريخ 02/02/2005 حول ذات الموضوع الحاضر دائماً في كل ما تقوله شلة أوسلو:
"أبناء الشعب في الشتات والمهجر:
النقطة الثانية الهامة فيما كُتب هو إسقاط التهم التلقائية الجاهزة والمعدة سلفاً لكل من يعيش قسراً ورغما عنه من أبناء الشعب الواحد في الشتات والمهجر، وكأن عنوان الشخص أصبح متلازما مع كونه يسكن القصور ويمتلك السيارات الفارهة والخدم والحشم، وهو زيادة عن كونه جهل تام بما يعانيه أبناء الشعب الفلسطيني في الخارج، وقصر نظر حاد لايمكن تبريره، فهو أيضا موضوع خطير لسببين:
- الأول أن سلطة أوسلو ومنذ دخول رموزها إلى الوطن السليب وهي لا تألوا جهداً في دق اسفين الفرقة والتفريق بين ابناء الشعب الواحد، فتارة نسمع عبارات فلسطينيو الداخل والخارج، و48 و67 ، والضفة وغزة وغيرها من التقسيمات المبتدعة، وتارة يكون التقسيم بين المدن وقراها أو على أساس حركي فصائلي كل حسب إنتمائه. هنا لابد من التأكيد على وحدانية هذا الشعب وتماسكه وإصراره على حقوقه كاملة وأهمها حق العودة الذي تجري المفاوضات السرية بشأن إسقاطه بطرق إلتفافية.
- الثاني هو محاولات استبعاد ثلثي الشعب الفلسطيني من دائرة القرار والفعل والتأثير وتهميش دور ستة ملايين لاجيء ومهاجر باعتبار أنهم استقروا حيث هم وبشكل مرفه ولا يرغب 90% بالعودة كما أشارت استطلاعات رأي مدفوعة الأجر قبل حوالي عام. وفي هذا المجال تنشط رموز أوسلو في التهجم على كل صوت يرتفع في الخارج باعتباره صوت عميل ومدسوس، وهو الأمر الثابت والمكرر في كل البرامج الحوارية التي يشارك فيها أزلام أوسلو ويُسقط في يدهم من قبل فلسطيني خارج وطنه الحبيب، فلا يجدوا الملاذ إلا في السباب والتهجم والتذكير بأن المحاور الآخر يعيش في هذا البلد أو ذاك وكأنها جريمة يرتكبها، فلا عجب أن نسمع ذلك الآن فقد تتلمذ كل هؤلاء على نفس اليد وفي نفس المدرسة.
ويبقى السؤال ما الذي يعطي عباس وهو لاجيء سابق في سوريا الحق في أن يعيش داخل فلسطين ليتمتع بأكثر من فيلا وفي أكثر من مدينة وليصبح رئيساً لسلطة أوسلو، وليصبح أحد أبناؤه مالكاً لشركة سكاي (طارق) والآخر صاحب وكالات السجائر في فلسطين (ياسر)، بينما يحرم 500 ألف لاجيء في سوريا وأضعافهم في باقي أنحاء العالم من أي حق لهم في فلسطين ؟
وأنهي هذه النقطة بالتذكير أن معظم من يعيش من الفلسطينيين في الخارج ليسوا من سكان القصور وأرباب النعم كما هو حال أزلام أوسلو، بل أغلبهم ممن هاجر بحثاً عن لقمة العيش ولتحسين وضعه الإقتصادي والمادي، وأغلبهم يعيش عيشة "مستورة"، أما من رزقه الله فهو من حر ماله وتعبه ونتاج لسنوات من الغربة والعمل، وليس نهباً من أموال الشعب وعرقهم وقوتهم كما هو حال تجار الأسمنت والسيارات والخاوات والفنادق 5 نجوم والتي يدّعي المتهمون فيها أنهم إصلاحيون، ولو كان الفلسطيني في الخارج كما تصفه هذه الأقلام مرفهاً يتنقل بين الخمّارات لما اهتم بوطنه وشعبه وحمل همومه ولكان انصرف لما هو فيه، فعجباً على زمن تنقلب فيه الحقائق ويصبح فيه ستة ملايين فلسطيني خارج الوطن المحتل متّهمون معيّرون بغربتهم! – إنتهى الإقتباس.
ما يبعث الأمل في النفوس أن غالبية أبناء الشعب في الشتات أصبحوا على درجة كبيرة من الوعي لما يحاك في الخفاء لشطبهم بجرة قلم والتنازل عن حقوقهم مقابل وعود جوفاء فارغة، وأنهم يزدادوا كل يوم تمسكاً بحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أخرجوا منها قسراً وليس إلى دويلة هزيلة بلا سيادة، ومما يفرح أنهم بدأوا في بلورة تجمعات حقيقية بعيداً عن تأثيرات "السلطة" وأزلامها، تعبر عنهم وعن طموحاتهم وحقوقهم، وتقف بالمرصاد لمحاولات التهميش والتغييب، وما تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين، ومؤتمر فلسطينيو أوروبا السنوي، وبيانات الجاليات في الشتات والمهجر إلا أمثلة على ذلك.
بالتأكيد لن يكون هذا هو آخر ما ينطق به الرئيس المبجل المتمسك بالثوابت الوطنية وبوديعة الراحل والسائر على دربه، ولن يكون حق العودة آخر المطاف فالقضاء على الإنتفاضة من أولويات سيادته، وتثبيت الفاسدين من علامات الإصلاح في عهده الميمون، وإرضاء المحتل الغاية الأسمى !
لقد فشل من كان قبل عبّاس، وسيفشل عبّاس، وكل من لف لفهم، في تجاوز حق العودة المقدس، ولن تنجح لا مبادرة جنيف ولا اتفاقيته مع بيلين ولا غيرها في مصادرة حقنا في العودة إلى ديارنا وأرضنا، حتى لو وقع آلاف الإتفاقيات والمعاهدات فحقنا هو حق فردي وجماعي لا يلغيه أو يبطله أحد.
سنُشرب هذا الحق لأولادنا وأحفادنا ليُشربوه لأحفادهم، كما أَشربناه من آبائنا، حتى يكون يوم العودة القادم لا محالة، شاء من شاء وأبى من أبى، فحقنا مقدس رغم أنف سيادتكم.
وللحديث بقية !