ما يحدث في غزة ... مؤامرة أم هزة ؟
بقلم : د. إبراهيم حمامي *

تسارعت الأحداث بشكل غير مسبوق في قطاع غزة خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية وسط ذهول البعض وتشكيك البعض الآخر وخوف من المجهول ومحاولة للفهم أعترف أنها إستعصت عليّ وأعترف أنه طوال يوم وليلة لم أعرف تحديدا ما الذي يجري أو إلى أين نتجه وأقر أن حيرتي زادت بعد سيل من الإتصالات من الأصدقاء تتساءل وتستفسر وكل منها يحمل خبرا جديدا أو معلومة جديدة.

أحداث اليوم الأول كانت بالنسبة لي على الأقل أوضح في معالمها فالمنطق يرفض أن نعترف أن ما حدث كان صدفة وتوارد خواطر فحوادث الإختطاف تمت في توقيت واحد وبفارق ساعات ومن قبل مجموعات مختلفة ولو كان الأمر غير ذلك كأن تكون الحوادث تمت في أيام مختلفة أو أن تكون في يوم واحد من قبل نفس المجموعة لفسر الأمر بشكل مختلف أما أن تتم بهذا الشكل المنسق من أطراف مختلفة يجمعها الإنتماء لفصيل واحد لتفاوض نفسها بنفسها فهذا مما لاشك فيه يثير الريبة والشك وتفوح منه رائحة المؤامرة.

ما تبع حوادث الإختطاف والتفاعلات السريعة أثار العديد من التساؤلات وزاد من الشكوك والحيرة فما ظننا أنه تكتيك تحت السيطرة أصبح خارج نطاق هذه السيطرة وعمت فوضى حقيقية لازال أبطالها حتى هذه اللحظة أبناء التنظيم الواحد ولتتبع وفهم ما جرى ويجري لنستعرض الأحداث في محاولة لفهمها :

  • ثلاث حوادث إختطاف لمسؤولين في "السلطة" وأجانب من قبل جهات لايعرف عنها الكثير لكنها تنتمي لحركة فتح، ثم مفاوضات بين أبناء الفصيل الواحد وإطلاق سراح المختطفين دون مطالب محددة أو نتائج واضحة. تستغل "السلطة" الوضع لتعلن حالة الطواريء ويستدعى "مجلس الأمن القومي".
  • صبيحة يوم السبت تصدر قرارات "رئاسية" بالعزل والإقالة والتعيين وضم للأجهزة برئاسة نسخ طبق الأصل لمن تمت إقالتهم بل أسوأ في حركة مكشوفة أشبه ما تكون تحريك لأحجار شطرنج مما أثار المزيد من السخط. الخاسر الوحيد كان الجبالي أما المجايدة فقد عين مستشارا لرئيس الوزراء للشؤون الأمنية-تبارك الله !
  • في غفلة من الأمر تناسى البعض أن هناك أجهزة أمنية لم تدرج ضمن الأجهزة الثلاث الجديدة ولم يتم التطرق إليها مثل جهاز الوحدة الخاصة برئاسة بشير نافع وجهاز أمن الرئاسة أو القوة 17- أسماء رنانة دون فعل يذكر.
  • رشيد أبو شباك (أمن وقائي) وأمين الهندي (مخابرات عامة) يعلنا الإستقالة "إحتجاجاعلى عدم إعطائهما الصلاحية لإنهاء فوضى السلاح" رغم أنهما من فاوض المختطفين وكأنهما أبرياء مما وصل إليه الحال في ظل قيادتهما المباركة للأجهزة الأمنية القمعية في محاولة يائسة للتنصل من المسؤلية عما إقترفاه.
  • جاء بعده دور قريع ليعلن أنه إستقال من منصبه محتجا أيضأ ثم لحظة.. لم أستقل، عفوا.. لازلت أفكر، وأخيرا سأحسم الأمر يوم الإثنين! مسخرة ومهزلة سياسية على الملأ بمشاركة وجوه أخرى مثل الملقن أبو ردينة وأبو لبدة وقدورة وغيرهم.
  • المجلس التشريعي أبى إلا أن يشارك في هذه الفوضى فأعلن روحي فتوح إستقالته أيضا إحتجاجا ثم عاد التشريعي في بيان مسائي لينفي ويعلن عن تشكيل لجنة طواريء ضمت أباطرة الفساد الأشاوس: نبيل عمرو، أبو علي شاهين، حسن عصفور، زياد أبو عمرو وأحمد نصر وكلهم من المحسوبين على التيار الدحلاني.
  • إنطلقت بعدها الأبواق المعروفة بالتطبيل والتهليل لقرارات الرمز الحكيمة حتى وإن كان الجميع يرى غير ذلك بمشاركة موازية من الصحف العبرية لتلميع الصورة من جديد.
  • في خضم ذلك واللافت للنظر أن الجميع تفادى ذكر إسم دحلان إلا همسا رغم تأكيد الجميع أنه العصب المحرك لمعظم ما يجري وأنه الرابح الأكبر فتحاويا من حالة التشرذم الحركي. المصادر الأمنية للإحتلال وبحسب يديعوت أحرنوت أكدت أن دحلان هو المخطط الرئيسي لما يجري بالتنسيق مع أبو مازن للعودة للحكم بعد أن ضمن ولاء 70% من قاعدة فتح في القطاع. التيار الدحلاني قام بتنظيم مظاهرة مسائية ضد الفساد-صدقوا أو لاتصدقوا.
  • الغريب أنه برغم كل هذه الأحداث لم يصدر أي تعليق رسمي من أية جهة رسمية "للسلطة" بل كم من القرارات والتعليمات المتوالية.
  • نامت غزة ليلتها الثانية وهي ساخطة على موسى عرفات ومن عيّنه لتستيقظ متمردة ومستفتحة ببيان لكتائب شهداء جنين يتهدد ويتوعد تلاه بيان لكتائب شهداء الأقصى يعلن رفضها للتعيينات الجديدة وتعلن "حل جهاز الإستخبارات العسكري"! لتهاجم بعدها مقر هذه الإستخبارات في خان يونس وتضرم فيه النيران بعد الإستيلاء على ما فيه من أسلحة وإطلاق سراح من كان معتقلا فيه. إنضم قائد القوات البحرية لطابور المستقيلين.
  • تلا ذلك خروج العديد من الأسماء الفاسدة العريقة من جحورها لتلعن الفساد والمفسدين وتندد به كالطريفي المتهم الرئيسي في جريمة الأسمنت ونبيل عمرو وحتى ياسر عبد ربه وكأنهم أشراف مكة!

  • أما العتيد هاني الحسن وزير الداخلية الأسبق فقد قاده حسه الأمني المرهف الذي لايخطيء إلى أن "هناك جهات خارجية تقف وراء ما يجري" ?سبحان الله كيف يكون ذلك والمتهم والمدعي أبناء فصيله ؟
  • أمين الهندي المستقيل أصدر بيانا من مكتبه (لاأدري أي مكتب ما دام قد إستقال؟) ليبرأ نفسه كالآخرين ويعلق على تراكمات الفساد والإجراءات وكأن لا دخل له بما يجري.
  • · عباس زكي لم يفته هو الآخر التنديد بالفساد والمفسدين والتذكير أنه من أوائل من طالب بفتح ملفات الفساد (على أن لاتطوله هو شخصيا بالطبع).
  • كتائب الأقصى التي أصبحت سيدة الموقف وعلى لسان الناطق بإسمها تتهم موسى عرفات بالتآمر مع الإحتلال لتصفية العديد من القادة مسمية يحيى عيّاش بالإسم- ترى لماذا لم تنشر هذه المعلومات في حينها ؟
  • موسى عرفات محور المشكل الآن يتحدى الجميع على قاعدة "يا جبل ما يهزك ريح" ويقول: "من قام بيتعييني فقط يمكنه إقالتي وما يحدث هو غمامة صيف وحتعدي" ثقة عالية بالنفس وكفاءة قيادية غير مسبوقة تصل لدرجة "التتييس" .
  • خلال هذا اليوم الطويل حدثت إشتباكات بين مسلحي كتائب الأقصى وعناصر الإستخبارات في كل من طولكرم ورفح مسفرة عن سقوط جرحى بعضهم في حال الخطر. للتذكير فقط بيت حانون لازالت ولليوم العشرين تأن تحت الحصار، أما السلاح والمسلحين فهم في مكان آخر .
  • مسك الختام كان بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد إجتماعها مساءا لتزف لنا حصولها على معلومات عن وجود خطة "إسرائيلية" للهجوم على مبنى المقاطعة في رام الله والتعرض "للرئيس المنتخب عرفات" في فصل جديد من فصول مسرحية الحصار التي لاتنتهي والتي تبدأ دائما مع إشتداد الأزمات لصرف الأضواء عنها وتثبيتها فقط على القائد الرمز.

  • هذه هي خلاصة الأحداث حتى كتابة هذه الأسطر وأعتقد أن المتتبع لها من خلال السرد السابق سيعرف مصدر الحيرة وعدم الوضوح الذي نعيشه جميعا بسبب ضبابية المواقف وتسارعها العجيب.

    رأيي الشخصي المتواضع أن الأحداث بدأت بمؤامرة مدروسة لتمرير عدة قرارات وتغييرات كدمج الأجهزة وعزل بعض القيادات بحجة الإنفلات الأمني وحوادث الإختطاف وفوضى السلاح وإنعدام الأمن وهذا يفسر التوقيت الغريب لكل ماجرى والذي فاحت منه رائحة الشك ويفسر سرعة إصدار القرارات والتشبث بها.

    لكن... لم تجر الرياح بما تشتهيه السفن وإنقلب السحر على الساحر حتى بعد تدخل "كبيرهم الذي علمهم السحر" فالعصا السحرية للرمز عجزت هذه المرة عن إحتواء الجميع خاصة بوجود المتربصين من أمثال دحلان ومن يقف وراءه وبالتالي إنفرط العقد وخرجت الأمور عن السيطرة لتجر قطاع غزة ومعه الشعب إلى حافة الإنهيار التام، ليس "للسلطة" لأنها غير مأسوف عليها ولكن لكل ما حققته الإنتفاضة.

    بدأ التخبط وقطاع غزة يعيش هزة حقيقية رغم أن الصراع لازال داخل أجنحة فتح المتصارعة إلا أن شرره سيصيب الجميع دون إستثناء، ولكن مهما كان حجم المؤامرة فالعناية الألهية ويقظة شعبنا ستبقى الصمام الحقيقي. غزة بصغر حجمها وكبر عطائها كانت دائما نقطة الإنطلاق ومفصل التغيير وعليها هذه المرة أن تكون غزة أولا.

    كل ما أتمناه أن لانخرج من هذه الأحداث لنعود سنوات إلى الوراء وتعود "حليمة لعادتها القديمة" وكأنها غمامة صيف كما أرادها موسى عرفات، بل علينا أن نعي الدرس ونستخلص العبر لنصل إلى إستنفار سياسي وجماهيري وإعلامي حقيقي لتشكيل قيادة وطنية موحدة من الجميع دون إستثناء على قاعدة التحرر والإنعتاق بعيدا عن سياسة الإستفراد وبعيدا عن الشعارات الجوفاء مثل "ديمقراطية غابة البنادق" التي ورّثتنا شريعة الغابة دون ديمقراطية!

    أخيرا يبقى هناك تساؤل يحتاج لإجابة: إذا كان الجميع قد إستقال إحتجاجا على الفساد (قادة الأجهزة الأمنية ورئيس الوزراء والتشريعي وغيرهم) فمن الفاسد يا ترى وعلى من الإحتجاج؟ الوحيد الذي لم يستقل هو القائد الرمز! ربما كان المستقيلون يعنوه بالفساد لأنه لم يتبق غيره! أقول ربما.

    ستحمل الأيام القادمة في طياتها الخبر اليقين.

    * د. إبراهيم حمامي : طبيب وناشط فلسطيني
    DrHamami@Hotmail.com
    تاريخ النشر : 07:13 19.07.04