لا للتطبيع، لا لروابط القرى الجديدة
بقلم : د.إبراهيم حمامي
بهدوء، ودون الضجيج الإعلامي المعهود، وبإعدادٍ متقن، وبمشاركةٍ كبيرة ورسمية، عُقد الإربعاء 13/04/2005 في مدينة أريحا إجتماع ضم "رؤساء بلديات" يمثلون سلطة أوسلو والإحتلال، عُقد الإجتماع في فندق الانتركونتننتال وسط إجراءات أمنية مشددة ، حيث استقبل الفلسطينيون نظراءهم بشكل ودّي يثير الدهشة، وفي جو مفعم بكلمات المحبة والغرام على مدخل الفندق، فيما قدمت مجموعة من زهرات أريحا أغصان الزيتون "للضيوف". حضر اللقاء "الأخوي" رؤساء حوالي ثلاث عشرة بلدية "إسرائيلية" منها بلديات (سديروت، ايلات، كريات شمونه، حيفا، ريشون لتسيون، مجل هعيمق، وبئر السبع) في حين شاركت خمس عشرة بلدية من مختلف بلديات الضفة منها (بلدية أريحا، جنين، بيتونيا، طولكرم، نابلس، حلحول، وطوباس وغيرها).
الإجتماع التطبيعي جاء تحت شعار إعتذار رؤساء البلديات "الإسرائيلية" لنظرائهم الفلسطينيين عمّا تعرضوا له من معاناة بسبب الإحتلال مطالبين بهدنة لمدة عام بين الطرفين بهدف دعم الهدوء الضروري، ووصولا إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل!
الوفد الإحتلالي أسهب في التذكير بجدنا إبراهيم عليه السلام وحتمية العيش المشترك وغيرها من الكلمات التي دغدغت عواطف الوفد الفلسطيني الذي تبارى أعضاؤه في كيل كلمات المحبة والسلام، فقال صائب عريقات رئيس دائرة شؤون المفاوضات "وعلى الرغم من معاناتنا فإننا كشعب فلسطيني نمد يدنا لكم من اجل السلام العادل والشامل"، أما رئيس بلدية أريحا ( المدينة المضيفة ) حسن صالح فوجه كلامه للوفد الآخر قائلاً: "اننا نتطلع إليكم لمساعدتنا في تحقيق الحقوق الأساسية والمشروعة لشعبنا"، سبحان الله الإحتلال سيساعد في تحقيق الحقوق؟، وختم الحوار حسين الأعرج وكيل وزارة الحكم المحلي ورئيس بلدية نابلس فبعد كلمات مشابهة تلا البيان الختامي المشترك، وهو بيت القصيد من الزيارة التطبيعية التي هدفت للمساواة بيت الضحية والجلاد، وبين المُحتل وشعب يقبع تحت الإحتلال ليذكر البيان فيما ذكره أن المجتمعين: "اجمعوا على رفض كافة أنواع العنف ضد المواطنين الأبرياء من كلا الطرفين، واقروا أن السبيل الوحيد للمضي قدما هو وقف هدر الدماء والعنف والمناداة لهدنة بين الطرفين تكون مدتها سنة واحدة بهدف دعم الهدوء الضروري ووصولا إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل وإحقاق الحقوق المشروعة لكلا الطرفين وتحقيق المصالحة والسلام فيما بين الشعبين". كما تضمن البيان " ترحيب رؤساء البلديات الفلسطينية بالمبادرة الجريئة والشجاعة من قبل رؤساء البلديات في إسرائيل، التي قدم فيها رؤساء البلديات الإسرائيلية اعتذارهم عما لحق بالشعب الفلسطيني من معاناة، معتبرين هذه المبادرة التاريخية نقطة بداية لسلسلة لقاءات سوف تعقد بالتناوب في مدن فلسطينية وإسرائيلية لتعزيز روح التعاون والتعايش بين الشعبين".
الإعتذار المفترض لم يتجاوز كلمات جوفاء لا قيمة لها في ظل ممارسات إحتلالية يومية فعلية على الأرض تُحول حياة الشعب الفلسطيني إلى جحيم دائم لا يشعر به بالطبع المشاركون في اللقاء "الودي"، في مقابل مكاسب للمحتل أهمها بدء عجلة التطبيع وإعتراف الجانب الفلسطيني بأن المقاومة عنف وإرهاب، مع إقرار صريح بأن للإحتلال حقوق مشروعة تماماً كالشعب الفلسطيني!!
في معرض تعليقه على اللقاء ذكر أحد الكتاب واقعة شبيهة نوعاً ما وإن كانت فردية دون بيانات، تلقي الضوء على تفاهة مثل هذه الإعتذارات ليقول: "عام 1997 توجهت برفقة نشطاء فلسطينيين واسرائيليين الى قرية قطنه في محافظة القدس للتضامن مع اصحاب بيوت هدمها الجيش الاسرائيلي بحجة عدم الترخيص. حينها وقف شاعر وأديب اسرائيلي معروف على انقاض المنزل وأعلن اعتذاره للشعب الفلسطيني . هذا الإعتذار بحد ذاته عبر عن مشاعر إنسانية تجاه انتهاك حرية شعب باكمله. بعد هذا الاعتذار في قطنه وحتى الآن هدمت القوات الاسرائيلية أكثر من عشرين الف منزل وشقه سكنيه بالضفة والقطاع وقتلت اكثر من اربعة آلاف فلسطيني وما زالت تحتجز في سجونها ما يزيد عن ثمانية آلاف اسير فلسطيني".
لم يكن من الممكن ومن خلال متابعة تفاصيل هذا اللقاء إلا وأن نستذكر ماضٍ مليء بمحاولات فاشلة لتدجين وتطويع وتطبيع شعبنا ليقبل الإحتلال وإفرازاته، وبوسائل مختلفة، وتحت مسميات ليس آخرها "الجاهة والعطوة الإسرائيلية" لرؤساء البلديات الفلسطينية، وكأن الإعتذار سيحل كل مشاكلنا، محاولات كان أشهرها "روابط القرى" التي اقترن اسمها بالعميلة، والتي أطلقها شارون بنفسه عندما كان يشغل منصب وزير الدفاع في حكومة الإحتلال عام 1981 ليقودها المدعو مصطفى دودين ولتنتهي بعد أشهر معدودات بسبب مقاومة الشعب لها ورفضه الإعتراف بها.
المصادفة العجيبة أنه رغم بقاء شارون طرفاً في المعادلة، تغيّر الطرف الفلسطيني الذي كان رافضاً لروابط القرى معتبراً إياها أداة عميلة للإحتلال، خُلقت لتكون بديلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، تحول هذا الطرف الذي كان يدّعي الوطنية والنضال والكفاح المسلح إلى روابط قرى جديدة، تحت مسمى آخر هو "السلطة الوطنية" التي تبرر وتحلل كل شيء حتى المحرمات بحجة "المصلحة الوطنية العليا"، ومن المصادفة أيضاُ أن روابط القرى العميلة ساهمت في إطلاق عشرات الأسرى كإنجاز وحيد لتثبت جديتها، وهو نفس الإنجاز الوحيد الذي حققته سلطة أوسلو بإطلاق سراح عدة مئات ممن قاربت محكوميتهم على الإنتهاء.
الزميل الصحفي أحمد منصور لخّص ما جرى في مقارنة رائعة تدين روابط القرى القديمة والجديدة بقوله: "العجيب ، أن هؤلاء الوجهاء والمخاتير من روابط القرى ، وبرغم أن بعضهم كان أمياً ولا يفقه في السياسة كما يزعم اليوم "وزراء" سلطة أوسلو ، إلا أنهم كانوا على وشك الحصول من الاحتلال على حكم ذاتي متكامل في قطاع غزة والضفة الغربية وهو "إنجاز" كبير ، مقارنة بما حققته حمائم منظمة التحرير التي أجهضت انتفاضتين وأزهقت آلاف الأرواح من أجل الوصول إلى غزة وأريحا ، هذا في حال ما هبطنا بذواتنا إلى حضيض حمائم منظمة التحرير وكذلك روابط القرى ، واعتبرنا بإن التنازل عن 80% من فلسطين في سبيل إنشاء حكم ذاتي ومهما كان متكاملاً ، أو حتى دولة كتلك التي يريد الأوسلويون إعلاء صرحها وسط كنتونات قطاع غزة والضفة الغربية ، واعتبرنا أن ذلك إنجازاً يستحق التسمية أصلاً .
نعم ،إن روابط القرى كانت ستحصل على حكم ذاتي في كامل مدن وقرى الضفة الغربية وقطاع غزة ، لولا أن هذه المنظمة التي كانت ترفع راية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، تدخلت بقوة وأحبطت المشروع برمته بعد أن تمكنت من تصفية كل من له علاقة بروابط القرى ، على اعتبار أنهم عملاء لكيان صهيون ، حسب مصطلحات ثوار الأمس ـ "وزراء" اليوم .
و لم تكن قد مضت سنوات قليلة على إفشال منظمة التحرير لما أسمته حينها ، بالمخططات والمشاريع التصفوية ، إلا ووجدنا "الثوار" أنفسهم وقد خرجوا من رحم "ثورة حتى النصر" ، للإعلان عن بدء مسيرة شد الرحال واللهاث خلف سراب ذات المخططات والمشاريع التي سبق وأن وصفوها بالتصفوية والمرفوضة ، أي أنهم ساروا على ذات خطى روابط القرى العميلة".
ليس من قبيل المصادفة هذه المرة أن يطلق سلفان شالوم وزير خارجية الإحتلال "خارطة طريق للتطبيع" في نفس يوم الإجتماع، ولا من قبيل المصادفة أن تجتاح قوات الإحتلال وفي فجر اليوم التالي مباشرة مدينة نابلس التي قرأ رئيسها البيان الختامي لتغتال أحد كوادر شهداء الأقصى، في ظل صمت رئيس البلدية المطبع، ولا من قبيل المصادفة أن يُعقد الإجتماع بعد محاولة إقتحام الأقصى ودعوات السماح بإقتسامه، وهو ما لا أستبعد أن يتضمنه البيان القادم للمطبعين الجدد.
الإعتذار المزعوم تزامن مع صدور آخر إحصائية لمركز الأسرى للإعلام يوثّق إعتقال 300 أسير جديد في شهر آذار/مارس الماضي وحده، وتزامن مع إحصائيات جديدة توضح أنه في الأسبوع الماضي وحده سقط 4 شهداء و29 جريحاً وسجّل 333 انتهاكاً إحتلالياً للتهدئة، وبلغ عدد مرات الاعتقال 25 مرة تم خلالها اعتقال 64 مواطناً، فيما وصلت عدد حالات إطلاق النار 82 مرة، كما شنت سلطات الاحتلال 54 حملة اقتحام ومداهمة للقرى والمدن الفلسطينية.
عُقد هذا الإجتماع في وقت تصر فيه الشعوب العربية على مقاومة التطبيع ورفض التعامل مع الإحتلال كأمر واقع، حتى وإن تصادمت مع إرادات حكوماتها اللاهثة وراء التطبيع، وحتى وإن أودعت السجون بقوانين جائرة تجرّم المقاطعة، وتعتبرها ضد المصلحة الوطنية، وهي نفس المقولات التي بدأت تتردد في فلسطين المحتلة على ألسنة المطبعين الجدد الذين يحملون هذه المرة الألقاب والصفات كوزراء ووكلاء وزارة ورؤساء بلديات.
تتنوع المظاهر السلطوية التفريطية بين حرس لحماية المستوطنات شبيه بجيش لحد، إلى روابط قرى جديدة للتطبيع، إلى أجهزة قمعية تعتقل وتعذب أبناء الشعب الفلسطيني، وغيرها من المآسي التي حلّت على شعبنا يوم وصلت هذه السلطة.
بقي أن نذّكر بأنه ما من شعب يعشق الحرية والسلام والأمن والأمان كالشعب الفلسطيني الذي حُرٍم منها جميعاً ولعقود طويلة، وما من شعب يرغب في العيش على أرضه بإحترام وتقدير لجيرانه كالشعب الفلسطيني، لكن هذا وبالتأكيد لاينطبق على المحتل وأدواته وصنائعه، ولايمكن تبرير التطبيع بتلك بحجج السلام والمحبة وحسن الجوار.
لا للتطبيع، ولا لروابط القرى الجديدة، وتحية للشعوب العربية التي مازالت ترفض التطبيع رغم مرور عشرات السنين على توقيع المعاهدات مع المحتل الغاصب، وحتماً لن يكون الشعب الفلسطيني مُطية لهذا التطبيع، حتى وإن ارتضت قيادة أوسلو هذا الدور، وحتى لو طرح شالوم ألف خارطة طريق تطبيعية.
د. إبراهيم حمامي
DrHamami@Hotmail.com
15/04/2005 |
|