يتواصل مسلسل الإعتذارات العباسية بمناسبة وبدون مناسبة، بحق وبدون وجه حق، وبشكل أقرب إلى الإذلال والمهانة، منه لكرم النفس وشيم الرجولة، وأخلاق الفرسان، التي لا يمكن أن ينكرها أحد، فالإعتراف بالخطأ فضيلة، والرجوع عنه يحتاج لنفس عزيزة، وإعتذار الأخ لأخيه، وتنازله عن بعض الكبرياء الزائف في سبيل المصلحة الأعم والأشمل ولإصلاح ذات البين، ليس بعار أو عيب، بل هو مكرمة تستوجب شكر صاحبها على شجاعته الأدبية، لكن ما يقوم به عباس فاق كل القواعد والأصول، وتجاوز حدود المنطق والعقل.
لا أنكر أنه يجب أن نعمل على رأب الصدع مع أشقاء لنا، كانوا ولفترة طويلة من أكثر الداعمين لقضيتنا وشعبنا، ومن أكثرهم سخاءا وكرما، رغم أن ذلك توقف وطال توقفه، وحان الوقت أن تعود الأمور لنصابها، وبالطبع أعني هنا الشعب الكويتي، إنما لا يمكن القبول بأسلوب الإذلال المتعمد الذي يصر عليه بعض النواب في مجلس الأمة الكويتي بإشتراط الإعتذار الرسمي والعلني قبل القبول بلقاء أي مسؤول فلسطيني، رغم أن الكويت أعادت علاقاتها مع كل الدول التي أسمتها "دول الضد" دون شروط أو إعتذارات، وهذا ما ينطبق على الأردن والسودان واليمن.
ما قام به عباس لا يمكن قبوله من باب الأصول والمصلحة والمنطق لأسباب كثيرة منها:
أن إعتذاره هو إعتراف بذنب لم يقترفه الشعب الفلسطيني أصلا، فنحن أكثر شعوب الأرض رفضا للظلم وسلب حقوق الغير حتى لو كان من عربي لعربي، وموقف الغالبية العظمى لم تكن ضد الكويت وشعبها، بل أن أبناؤنا في الكويت كانوا أول ضحايا الغزو عام 1990 وغادر أكثر من نصفهم قبل بدء العمليات العسكرية عام 1991، ليدفع من تبقى بعد ذلك أبهظ الأثمان.
أن إعتذاره هو تأكيد لأكاذيب إعلامية لا أساس لها من الصحة عن دور مزعوم في دعم الغزو الصدامي للكويت، حيث لم ترسل أية جهة رسمية فلسطينية أية مسلح لدعم صدام.
الحكومة الكويتية وعلى لسان رئيس الوزراء صباح الأحمد وقبل يوم من زيارة عباس للكويت صرح بالحرف الواحد: إننا نعتبر موضوع موقف السلطة (القيادة) الفلسطينية من الغزو العراقي انتهى"، وأضاف "ونحن نرحب بزيارة رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن)" للكويت. وردا على سؤال بشأن اشتراط الكويت اعتذارا فلسطينيا، قال الصباح: "لماذا نتحدث عن الاعتذار؟ نحن نرحب به (محمود عباس) وبزيارته للكويت"، مضيفا "نحن نرحب به وبزيارته للكويت وبوجوده هو وإخوانه في البلاد". هذا هو الموقف الكويتي الرسمي.
لكن عباس وفور وصوله للكويت سارع إلى تقديم اعتذار باسم المنظمة والشعب الفلسطيني للكويت وللشعب الكويتي. وقال ردا على سؤال صحفي حول موقف منظمة التحرير من الغزو العراقي للكويت "نعتذر للكويت وللشعب الكويتي عما بدر منا". لم يحدد عباس مالذي بدر "منا" ويستوجب الإعتذار الذي لم تطلبه الحكومة الكويتية أصلا.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتبرع ويتطوع فيها عباس بالإعتذار وبشكل رسمي وعلني عن "أحداث" لم يكن للشعب الفلسطيني أي دور فيها، مما يزيد من إستهتار ضعاف النفوس بشعبنا، وبتواطؤ إعتذاري من عباس وغيره من "القيادات"، حيث:
- كان أبو مازن أول "مسؤول" فلسطيني يزور السعودية بعد حرب الخليج عام 1991 في يناير عام 1993 "ليعتذر" عن موقف الفلسطينيين!
- في كلمته الشهيرة في العقبة بالأردن عام 2003 تباكى على عذابات اليهود عباس وإعتذر بشكل غير مباشر عنها عندما طالب بوضع حد لها وأنه آن الأوان لوقف العنف ضد المدنيين!
- وأخيرا إعتذر خلال زيارته الأخيرة للبنان عن سنوات "المقاومة" في لبنان.
لست بأي حال من الأحوال ضد تحسين العلاقات المتوترة مع أي من الدول الشقيقة، لكن على أساس من الإحترام المتبادل، والإعتراف الثنائي بالخطأ، لأن شعبنا كان دائما كبش الفداء لهذه الدول، وآن الأوان لتغيير تلك المعادلة الظالمة.
لم يقدم عباس إعتذاراته بصفة شخصية لكن نيابة عن الشعب الفلسطيني الذي لم يفوضه أصلا، هذا الشعب الذي يعتبر الضحية الرئيسية لسياسات وممارسات عباس والقيادات الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية ومن بعدها السلطة الفلسطينية.
لو كان هناك من يستحق الإعتذار، وطلب الصفح والعفو والمغفرة منه لكان شعب فلسطين البطل، الذي تاجر بدمائه وعذاباته وطوال 40 سنة المتنفذون من قيادات أوردت شعبها المهالك، لتبقى وتستمر وتعيد الكرة المرة تلو المرة، وبشكل شبه مبرمج لتدمير مقدرات الشعب والتقليل من تضحياته، وضرب صموده، وبنفس الوجوه والرموز، التي لم تعترف يوما بخطأ أو تعتذر أو تتحمل مسؤولية عما إقترفته.
هذه القيادة ومنها عباس المعتذر للجميع، إلا لمن يستحق فعلا الإعتذار، أوصلتنا لما نحن فيه الآن، عبر سلسلة من المآسي والكوارث ليس أقلها:
- سقوط مئات الآلاف من أبناء شعبنا بسبب الممارسات العنترية في الأردن عام 1970، وفي لبنان منذ عام 1982، دون إعفاء الطرف الآخر من المسؤولية.
- تشريد قرابة نصف مليون فلسطيني من الكويت عقب الإجتياح الصدامي لها عام 1990، والتي قرر عباس الإعتذار عنه الآن وكأننا نحن من إجتاح الكويت، ودون إعتذار متبادل يقر بما تعرض له أبناء شعبنا هناك عقب "تحرير" الكويت.
- تشريد عشرات الآلاف من ابناء شعبنا في ليبيا بين عامي 1995 و1996 في الصحارى والبحار، بسبب الإصرار على مواقف معروفة للجميع، والتي لا زال يدفع ثمنها أبناؤنا هناك ممن تبقوا بدون إقامات، أو كالطبيب أشرف الحجوج الذي لم تحرك هذه القيادات ساكنا للدفاع عن حقوقه، ومرة أخرى دون إعفاء الطرف الآخر من المسؤولية.
- الأوضاع المأساوية لمخيمات الشتات، ولأبناء وأسر الشهداء والجرحى والمعاقين، الذين يعانون من الإهمال المتعمد.
- ضياع المليارات من الدولارات وإختفائها في حسابات شخصية خاصة لاتعرف تفاصيلها حتى اللحظة.
- التوقيع على إتفاقات أوسلو الكارثية والتي شرّعت الإحتلال.
- فتح السجون والمعتقلات،والزج بالمئات فيها بين أعوام 1994 و2000 وسقوط العشرات على أيدي جلادي الأجهزة الأمنية القمعية.
- التلاعب بمصير شعبنا عبر مفاوضات سرية لازالت مستمرة، وعبر صفقات مشبوهة كالأسمنت وغيرها.
- نشر ثقافة الفساد والإفساد والرذيلة والرشوة وغيرها.
- التنازل المبرمج عن معظم الحقوق، والتهيئة للتنازل عما تبقى خاصة حق العودة المقدس غير القابل للتفاوض أو التنازل.
- التربع على صدر شعبنا أربعة عقود كاملة وكأن سيدات فلسطين عجزن عن إنجاب قيادات غيرهم.
لو فتح الباب أمام أبناء شعبنا لإستكمال هذه القائمة، فلن تكفيه مجلدات الأرض، وبكل أسف القادم أسوأ، والمكتوب يقرأ من عنوانه.
على عباس وزمرة أوسلو والقيادات المتنفذة الإعتذار لكل فلسطيني فردا فردا عما إقترفوه بحقهم، وطال عقود من الزمان، أم أنهم لم يشعروا بعد بحجم الكارثة التي أوصلونا إليها، أو ربما شعبنا لا يستحق منهم ذلك الإعتذار لأنه لا فائدة مادية مباشرة من مثل هذا الإعتذار، فلا سفارات ستفتح، ولا دعم مالي سيمنح.
الشعب الفلسطيني هو من يستحق الإعتذار، والأولى به، فهل سيعتذر عباس له، أم أن الأخطاء والجرائم السابقة غير كافية وعلينا إنتظار المزيد؟