إنتفاضة فتحاوية
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

لم تعد الحيل تنطلي على أحد، ولا التصريحات الرنانة والوعود المنمقة وبناء القصور في الهواء، فالأمور باتت واضحة وضوح الشمس، واللعب عالمكشوف، وسلطة أوسلو غاصت في المحرمات والفساد حتى قراقيط آذانها، وبلغ السيل الزبى.

هذا هو لسان حال الشارع الفلسطيني بمختلف مشاربه، وعلى رأس الجميع حركة فتح نفسها التي بدأ عناصرها في الإستيقاظ من سبات طال، وتسيير محدد الأهداف من قبل قيادات لا هم لها إلا مصالحها، لتصل بفتح لمستوى لا تحسد عليه من تخبط وضياع البوصلة السياسية، وتجاذبات وتحالفات داخل الحركة الواحدة، ومراكز قوى تدافع وبعند عن مكاسبها وترفض أي تغيير، وكوادر فاض بها لتعلن التمرد على "الحرس القديم" البالي.

ليس جديداً على أبناء حركة فتح الأوفياء أن يقفوا ويواجهوا الفساد والمفسدين، رغم فشل معظم هؤلاء في تغيير حقيقي على الأرض طوال عقود من الزمن، لأن الوجوه الكالحة هي ذاتها التي "قادت" شعبنا من مأساة لأخرى في الأردن ولبنان وتونس وفلسطين، وهي نفسها التي تقاوم التغيير حتى اللحظة وترفض الواقع الذي بدأ برفضها ولفظها، لكن الجديد هذه المرة هو علو تلك الأصوات، واتخاذها خطوات فعلية وملموسة للتغيير وعدم الإكتفاء بالإنكفاء والقبول بالأمر الواقع، حتى وإن أدى الأمر للإستقالة أو المواجهة.

ما حمله الأسبوع الماضي من تداعيات وتمرد على الممارسات والأساليب التي يصر عليها أصحاب النفوذ والعقول المتحجرة في حركة فتح، يمكن وصفه بما يشبه الإنتفاضة الفتحاوية الداخلية، وهو ما يبشر بيقظة من العناصر التي لازالت ترى في مصلحة الشعب أولوية على المصالح الحركية الفئوية الضيقة، مقارنة بأصحاب المصالح الشخصية على مبدأ "أنا ومن بعدي الطوفان".

الإنتفاضة الفتحاوية يمكن تشبيهها بكرة الثلج المتدحرجة التي تبدأ صغيرة وتكبر كلما ازدادت تدحرجاً، لتصبح أكثر تأثيراً وقوة، ولتنطلق بثبات نحو هدفها النهائي، وهو هنا القضاء على الفساد، وتغيير "القيادات" المتورطة فيه، وضخ دماء جديدة في الحركة تعيدها لأصلها الذي غيّبه البعض لتمرير تسوياتهم.

صحيح أن الحركة بكل طبقاتها وفئاتها أجمعت على عبّاس كمرشح أوحد، سواءاً عن اقتناع، أو تصديقاً للوعود التي أطلقها وبدأ بالتنصل منها، أو على أمل أن يوحد الحركة ويحافظ عليها، وهو ما ثبت عكسه فما أن استقرت له الأمور حتى بدأ وبمساعدة دحلان "بقصقصة" أجنحة الأطراف الأخرى داخل الحركة والمعارضة لسياساته، والتي كان للموالين فيها لعرفات النصيب الأكبر من الإقصاء والإبعاد، وأخيرأً محاولاته المكشوفة لإقصاء قيادات الخارج وتحجيمها برفضه عقد أي اجتماع رسمي خارج فلسطين مما يعني ابقاء من في الخارج وخاصة فاروق القدومي خارج دائرة صنع القرار، لكن هذا الإجماع بدأ بالتراخي بعد تكشُف المخفي.

أولى خطوات الإنتفاضة الفتحاوية كانت اجتماع 110 من الكوادر المعروفة في الحركة من كافة مدن الضفة الغربية دون دعوة أياً من أعضاء اللجنة المركزية وإصدار بيان حدد تاريخ 10/03/2005 يوماً لاجتماع آخر موسع لإنتخاب قيادة جديدة لحركة فتح في الضفة الغربية حسب تصريحات أحمد الديك القيادي في الحركة.

هذه الخطوة تلتها خطوات عملية أخرى تمثلت في موجات استقالة جماعية بدأت ب 32 من القيادات المحلية في الضفة الغربية يوم 03/03 2005 منهم 15 من أبرز القيادات الشابة للحركة من مكتب التعبئة والتنظيم ، ومن ثم استقالة 250 من عناصر وقيادات فتح في اقليم غرب غزة وتحديداً من منطقة الشيخ رضوان، لتلتقي هذه الإستقالات مع مطالب فاروق القدومي تشكيل قيادة وطنية موحدة تنهي التفرد بالسلطة.

بطبيعة الحال لم يعجب ذلك المتنفذين في سلطة أوسلو من أصحاب المصالح والإمتيازات فعمدوا وبأسلوب الزعرنة المعتاد الى فض الإجتماع يوم الخميس 10/03/2005 والذي كان من المقرر فيه انتخاب القيادة الجديدة للحركة في الضفة الغربية، بعد أن أطلق الزعران الرصاص في الهواء وهددوا الموجودين بالقتل ان لم يغادروا !

أما اللجنة المركزية الهرمة فقد فتحت باب مواجهة آخر بإصرارها على أسلوبها المرفوض القاضي بالتعيين لا الإنتخاب، ليعلن أعضاء هذه اللجنة المركزية رفض فكرة انتخاب هيئة مكتب التعبئة والتنظيم مستندين في ذلك إلى النظام الداخلي للحركة الذي ينص على قيام اللجنة المركزية بتعيين أعضاء هيئة المكتب، مما أثار حفيظة البعض الآخر حيث وصف أحد المستقيلين الاجتماع بأنه: تحشيد قام به هاني الحسن ضدهم مستخدماً أشخاصاً من هامش العمل التنظيمي قام هو بتعيينهم وقد انسحب عدد من أعضاء المجموعة من الاجتماع غاضباً بينهم أمين مقبول القائم بأعمال أمين سر الحركية العليا في الضفة.

الإنتفاضة الفتحاوية على الفساد وجدت في الصحف المحلية والتي طالما كان أكثرها خط الدفاع الأول عن أوسلو، وجدت الدعم والسند فهاهي صحيفة الحياة الجديدة تبرز أخبار الإستقالات ليكتب على صفحاتها الفتحاوي المخضرم ووكيل الوزارة عدلي صادق قائلاً تحت عنوان "على طريق التغيير": من يحلم من مركزية الحركة وغيرها بأن يبحث لنفسه عن دور باهر فلا داعي لأن يتعب نفسه وأن يتعبنا معه، لأن فرص الأدوار الباهرة بالعمل الفتحاوي ضاعت من الجميع عندما وقفت أطر الحركة العليا تتفرج لمدة 10 سنوات على أداء السلطة الذي نسدد الآن ثمنه من مكانة فتح في الشارع"، أما الكاتب عبد الله عوّاد فكتب في صحيفة الأيام منتقداً الحرس القديم الذي رأى أنه يصر على وضع فتح بالمؤخرة وخارج السرب الديمقراطي، وأن قيادات فتح التي أصابها التكلس تعتقد أن ما صلح عبر 40 سنة يمكن أن يصلح الآن، وهو نهج التعيين والشلل والغموض وفبركة المؤتمرات والمواقف داخل المؤتمرات والاجتماعات، وكانت النتيجة تدمير تنظيم فتح وإضعافه وشله واختصاره في أشخاص".

بالتأكيد ليست هذه هي نهاية الكرة المتدحرجة التي انطلقت ولا يمكن ايقافها، حتى وان استُخدمت كل الحيل السابقة من وعود وتأجيلات وإغراءات، فوضع الحركة ومستقبلها باتا على المحك، وخطر تشرذمها حقيقي، والوقت بدأ بالنفاذ، وما كان يصلح في الماضي أضحى مرفوضاً الآن.

الإنتفاضة الفتحاوية الحالية هي أمل الحركة الأخير، فإما أن ينحاز لها أبناء الحركة لقلب الطاولة على رؤوس من أغرقوها في مستنقعهم، وحولوا الحركة الى حركة أشخاص، وإما أن يفوز هؤلاء "الأشخاص" مرة أخرى لتجد فتح نفسها خارج كل شيء، القرار والمجالس وحتى أحاديث الشعب الذي سأم ممارسات "قيادتها" الصدأة.

د. إبراهيم حمامي
DrHamami@Hotmail.com

12/03/2005