مرة أخرى حول الديمقراطية الفتحاوية
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

منذ موضوعي السابق تحت عنوان "ديمقراطية فتحاوية عتيدة" ومظاهر هذه الديمقراطية تتوالى تباعا لتثبت وبشكل لا لبس فيه العقلية المتحجرة ومبدأ رفض الآخرين التي تسيرعليها قيادة حركة فتح ومنذ عقود، والتي تحاول الإبقاء عليه كمنهج معتمد لفرض هيمنتها على مجريات الأمور، وهو المنهج الذي يضر الحركة نفسها قبل غيرها، ويضع علامات الإستفهام على الطريقة التي تدار فيها الأمور خلف أبواب مجالس الحركة المتعددة.

فبعد الإجماع المشبوه على شخص عباس كمرشح أوحد ووحيد، والذي كان ولأسابيع قليلة خلت إختيار شاروني، وإنعزالي، ويحاول سحب الصلاحيات الأمنية من عرفات، وكرزاي فلسطين وغيرها من النعوت، بعد هذا الإجماع بدأت حملة فتحاوية منظمة تصاعدية ضد كل من يقف في وجه هذا الإختيار سواءا من داخل الحركة أو من خارجها، على مبدأ الحركة الجديد الذي أعلنته في بيانها يوم 25/12/2004 "بعد الختيار أبو مازن هو الخيار"!

لم يكن الأمر ليثير الإهتمام لو أن تلك الحملة كانت في حدود الأدب واللياقة والتنافس الشريف، ولو أنها التزمت أخلاقيات شعبنا، ولو أن التنافس على منصب بحماية المحتل ولحمايته، ولم تكن هناك حاجة للحديث عن الموضوع لو كان عباس في خطر داهم حقيقي يحول بينه وبين الجمع بين المنصبين الرئيسيين في منظمة التحرير الفلسطينية وسلطة أوسلو وهو ما عارضه قبل ذلك، لكن أن تتخذ هذه الحملة الشعواء منحاً لا أخلاقيا بغيضا وبشكل متعمد وممنهج، فهو ما لا يمكن القبول به.

مسلسل هذه الحملة الشرسة والهستيرية بدأ مبكرا وتطور فيما بعد وكانت أهم محطاته:

  • الهجوم الذي قاده الطيب عبد الرحيم وعباس زكي على مروان البرغوثي لترشيحه لنفسه كمرشح مستقل، ووصفه بنعوت ليس أقلها "العبث السياسي والأوهام وتهمة التخلي عن فتحاويته وان فعلته هي هجوم على حركة فتح"، فتحول مروان البرغوثي الذي كان من وجهة النظر الفتحاوية على الأقل رمزا وطنيا نضاليا أسيرا، وقائد الإنتفاضة وكتائب شهداء الأقصى والمرشح الأوفر حظا لخلافة عرفات، أصبح وبقدرة قادر وبين يوم وليلة خارجا عن الإجماع الفتحاوي، أنانيا يضع مصلحته فوق مصلحة الحركة، خادما لمخططات شارون، مما يستدعي إتخاذ إجراءات صارمة ضده حتى ولو كانت طرده من الحركة، ولم يهنأ بال القائمين على الحملة إلا بسحب مروان البرغوثي ترشيحه وإعلان ولائه ودعمه لعباس.

  • المرشح حسن خريشة لم يكن أوفر حظا فكان نصيبه بيان فتحاوي آخر يقطر حقدا وتفاهة وينم عن نفسية مريضة صدر بتاريخ 08/12/2004 ووصف البيان ترشيح خريشة نفسه بمغامرة مجنونة، ومحفوفة بمخاطر حداثة التجربة، والسطحية السياسية، وأنها ستقود إلى منزلقات ومخاطر ومصير مجهول، وأضاف أن ماضي الدكتور حسن خريشة وتاريخه يحتم التساؤل والمساءلة، وحفل البيان بتهجم شخصي شديد وجارح على الدكتور خريشة، متهما إياه بأوصاف غير لائقة، منها أنه صاحب تاريخ ملوث، لا لسبب إلا لأنه تجرأ على منافسة المرشح الأوحد، في وقت تناسى كاتب البيان الحاقد أن حسن خريشة كان من الذين كشفوا عن ممارسات الفساد وصفقات بل جرائم الأسمنت، وكان من القلائل الذين رفعوا صوتهم في المجلس التشريعي مطالبين بالحساب والعقاب لمن تاجر بالشعب ومقدراته، وربما لهذا السبب تحديدا كان الهجوم عليه، وانسحب هو الآخر.

  • البرفيسور عبد الستار قاسم لم يسلم هو الآخر من الديمقراطية الفتحاوية التي أطلقت الشائعات في طول البلاد وعرضها واصفة إياه بالإنتهازي والمرفوض من كل القوى اليسارية والإسلامية، مستهزأة تارة بأنه لن يحصل على أية أصوات، ومهددة تارة أخرى، متناسين وعن عمد أنه الوحيد الذي أعلن ترشيحه في وجه سطوة عرفات يوم كان مطلقوا الشائعات أنفسهم يرتعدون خوفا منه، وأنه من اعتقل أكثر من مرة حتى من قبل قوات السلطة القمعية، وهو من أطلق عليه الرصاص بسبب مواقفه، ومرة أخرى لم يهنأ بال هذه العصابة حتى انسحب البروفيسور قاسم.

  • أما نصيب الأسد من تلك الحملة فكان من حظ د.مصطفى البرغوثي، الذي أصبح وبعد الإنسحابات المتتالية الهدف الرئيسي لأبشع حملة منظمة طالت كل شيء ماضيه، وذمته المالية، وقيادته للجان الإغاثة الطبية، وهدفه من الترشيح، بل تم ربط اسمه بالدوائر الإستخباراتية وبشكل مكشوف ومفضوح لا يليق حتى بالأطفال السذج، وعلى لسان الأبواق المعهودة إياها التي تسترزق وتعتاش من خلال أعمدتها اليومية في الصحف والتي يحتل بعضها المناصب الرسمية في الوزارات، وأيضا على لسان آخرين أخذتهم عزة تعصبهم بالإثم ليتناسوا أن صوت د.البرغوثي كان وحده الذي خرج من بين الدمار والقصف والموت ربيع عام 2002 ليخاطب العالم ويحشد الدعم في سبيل قضيتنا جميعا، ومتناسين دوره في الوقوف بوجه الجدار العنصري، ومتناسين أن ما يتهمونه به ينطبق وبنسبة 100% على مرشحهم الوحيد الأوحد، وهذا بعض مما كتب عن د.البرغوثي أوجهه لجوقة الأبواق ولكن عن عباس: "لقد قال الدكتور أنه مرشح الكفاح الفلسطيني ، أي كفاح وأنت الذي لم نراك تطلق طلقة واحدة في تاريخ النضال الفلسطيني ، وأي كفاح وأنت الذي لم تسجن يوما واحدا ، ولم تقف في وجه جندي إسرائيلي إلا عندما كانت الكاميرا حاضرة هناك لالتقاط الصورة؟" ويتساءل آخر عن مصادر تمويل حملته الإنتخابية! ترى ألا ينطبق كل ما سبق على عباس؟؟

  • تحولت بعد ذلك الحملة المسعورة عن مرشحي الرئاسة وبدأت توجيه حقدها لكل من يحاول دعم آخرين غير عباس الوحيد الأوحد، وبطريقة تؤكد مرة أخرى أن ما تدعيه قيادات فتح من ديمقراطية وحرية رأي وتعبير ما هو إلا استنساخ لعقلية وديمقراطية جمهورية الفاكهاني التي لا تعرف إلا الهيمنة والسيطرة وسحق الآخرين.

  • طالت تلك الحملة العمياء ومن خلال بيانات متتابعة ومقالات لموظفين رسميين في سلطة أوسلو وتحت عناوين منها "لماذا ايها الرفاق؟" طالت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برمتها وخصت أمينها العام بالجزء الأكبر من اللوم والتهجم لقرارها بدعم د.مصطفى البرغوثي وكأنها أجرمت وارتكبت معصية كبرىن حيث وبرأي هؤلاء الجهابذة كان من باب أولى دعم عباس لأن برنامجه لا يختلف عن برنامج البرغوثي، على الأقل إعترافا بجميل سلطة أوسلو وحنيّتها لزجها بالأمين العام للجبهة أحمد سعدات في سجن أريحا ورفض إطلاق سراحه رغم قرار المحكمة العليا للسلطة نفسها!

  • لم يرق لهؤلاء الأبواق وكاتبي البيانات أن يقرر فصيل بحجم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين دعم فلان أو علان، وبغض النظر عن رأيي في الإنتخابات التي أرفضها جملة وتفصيلا، إلا أن حالة الهستيريا التي صاحبت قرار الجبهة يصعب فهمها، فلقد كتبت المعلقات والغنائيات في حب وغرام حركة فتح، وحتمية دورها في قيادة الشعب الفلسطيني، وعن ضياعنا جميعا - لا قدر الله- لو فاز مرشح آخر غير عباس، وكأن الكون برمته أصبح مرتبطا بالحركة ومرشحها!

  • آخر تلك العروض الفتحاوية الديمقراطية كانت من نصيب نايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لأنه تحدث عن حقائق وأمور يعرفها القاصي والداني ولكن مرة أخرى لم تعجب أصحاب العقليات المتحجرة حقيقة أن مرشحهم ومن وراؤه منتهوا الصلاحية، فأصدروا البيانات وهاجموا حواتمة إلى حد وضعه في خانة الدبابات الإسرائيلية التي تقتحم المدن الفلسطينية، ورغم أن حواتمة يتحمل جزءا من مآسي الشعب التي كان شاهد زور عليها كغيره من باقي قادة الفصائل، إلا أن التهجم عليه وبهذا الشكل ومحاولات فتح الدفاتر القديمة يثبت ومن جديد أن المحرك وراء تلك البيانات والكتابات لا يؤمن إلا بالسطوة والهيمنة.
  • هذه وببساطة العقلية التي تريد لنا أن نقتنع بديمقراطيتها وثوريتها وحوارها مع الآخرين! فإن كان هذا أسلوبهم ومنهجهم مع من يمارس حقا من حقوقه وفي الحدود التي اختطوها بأنفسهم في سلطتهم العتيدة، ترى ما هو مصير من يقف مدافعا عن حقه في الحياة والمقاومة في وجه دعوات مرشحهم الأوحد لوأد الإنتفاضة، ولفرض سيادة "قانونه" بحجة محاربة الفلتان الأمني الذي تمارسه عناصر حركته التي رفعه عناصرها على الأكتاف في بلاد يحكمها أولاد؟

    بالتأكيد لن تكون المواجهة بالكلمات والنعوت والتهجمات اللاأخلاقية كما هو الحال الآن، فعقلية "الأنا" لن تقبل بأقل من الهيمنة المطلقة على الجميع وبدعم متواصل من جوقة المطبلين والمزمرين ممتهني الكتابة، ومن ورائهم آلة إعلامية رهيبة جاهزة لقلب الحقائق كما حدث في الإنتخابات البلدية حتى وإن ثبت كذبها وزيف ما تدعيه، وبقوة غاشمة قوامها ألاف المسلحين من حملة شهادة "زعرنة" مع مرتبة الشرف!

    الخاسر الأكبر من مثل هذا الأسلوب والمنهج هو حركة فتح نفسها، لأن مصداقية الحركة وتاريخها على المحك، لكن يبقى الأمل دائما في الشرفاء الذين تعج بهم حركة عريقة كحركة فتح، ليصححوا مسارها ويعيدوها لصف الشعب وثوابته وحقوقه.

    كان الله في عوننا، وجنبنا وإياكم شرور الديمقراطية الفتحاوية.

    د. إبراهيم حمامي

    DrHamami@Hotmail.com

    05-01-2005