نختلف ولكن...
بقلم : د. إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي
ليلة أمس كنت محظوظا بمقابلة شخصية جذابة وجميلة وهادئة لعم طيب ألتقيه لأول مرة عاصر وعاش حقبة الستينيات من القرن الماضي وكشاهد على أحداثها في الأردن، وعدنا بالذاكرة إلى الوراء، إلى عبق الماضي المشرق في مسيرة نضالنا أيام معركة الكرامة والتي كان العم أحد أبطالها والتي لازال يذكر أحداثها بتفاصيل تثير الإعجاب، كيف لا وهي علامة فاصلة في حياته وفي تاريخ المقاومة.

بعدها وصل بنا الحديث إلى أحداث أيلول الأسود المؤلمة ومن ثم ممارسات بيروت، وإتخذ النقاش منعطفا يختلف عن سابقه ومنحنيا تميز بالشد والجذب ونقاش هاديء في مجمله ولكن لا يخلو من الحدة في الرأي والطرح وبذلك إختلفنا - نعم إختلفنا- العم الطيب بذكرياته وخبرته في الحياة ومعاناته على مر السنين والعبدلله الذي هو بعمر أبناء هذا العم والذي يقل خبرة ومعاناة، لكن لم يكن الخلاف لمجرد الخلاف أو عناد كمن تأخذه العزة بالإثم، لكنه كان نقاش الحجة والمنطق والدليل.

لم يغضب العم الطيب مني ولم يثر في وجهي ولم يتهمني بالجهل وسوء النية، ولم يلق التهم جزافا يمنة ويسرة، والأهم لم يهددني، كما هو حال أغلب الناس هذه الأيام، بل حاور وإستمع، وأقنع وإقتنع وعمت الفائدة جميع من تواجد في هذه الليلة التي سعدت فيها بسماع العم الفاضل.

قبل أن يتساءل البعض عن سبب الخلاف أقول سأعود لهذه النقطة لاحقا!

*****

بالأمس أيضا وصلتني رسالة عن طريق شخص ثالث تحمل في طياتها عتابا ممزوجا بتهديد مبطن من شخص تربطني به علاقة جيدة وهو ذو مكانة إعتبارية، لم تعجبه أرائي وأفكاري وإعتراضي على أداء معين وإعتبر ذلك تهجما شخصيا عليه غير مقبول وغير مسموح به بغض النظر عن المحتوى والمضمون فالنقد ممنوع والإعتراض تدمير وهدم لإنجازاته مهما كانت والإختلاف يعني المواجهة!

هذا الشخص المسؤول قدم عرضا! العرض تمثل في إجراء مناظرة مفتوحة بيني وبينه ليعرف كل منا شعبيته! الغريب أنني لم أطرح نفسي يوما بديلا أو في مواجهة أحد. الخلاف إذا تحول إلى مبارزة وصراع شخصي كصراع الديكة رغم أنني لازلت أكرر أنني ومن ناحية العلاقة الشخصية أكن لمعاتبي المودة ولكن للأسف فهموم الحياة وبريق المنصب ووساوس البعض تجعلنا نغفل عن المسلمات وتجعلنا ندعي أننا نقرأ ما بين السطور فنقع جميعا في المحظور ليتحول العام إلى خاص و"لتشخصن" الأمور لتصبح خلافا وصراعا بغيض ومقيت.

*****

اليوم تمر الذكرى السنوية الأولى لوفاة والدي الطيب رحمه الله وغفر له ولنا وأسكنه جنات الخلد، والدي الذي علمني ورباني ورعاني وزرع فيّ حب الوطن وحب الآخرين وزرع فيّ "أن الصدق منجاة" و"أن أقصر الطرق وأسلمها طريق الصدق" و"أن حبل الكذب قصير" و"أن اللف والوران لا بيوّدي ولا بيجيب" وأن الله سبحانه وتعالى هو من يقرر مصيرنا لأن "اللي ركب الراس هو اللي بيشيلو"، والدي الذي أفتقده صباح مساء وأدعو له بالرحمة في كل وقت كان حاضرا بالأمس ونحن نختلف وكان حاضرا ونحن نتناقش لأنه ببساطة علمني كيف أختلف مع الآخرين دون أن أبغضهم كأشخاص أو أفراد ودون تعريض وتجريح.

*****

ما بين العم الطيب وبين المعاتب وبين دروس والدي - رحمه الله- ثمة قاسم مشترك وعامل ثابت وهو كيف نختلف؟ ولماذا نختلف؟ وعلى ماذا نختلف؟

عندما تناقشت مع العم الطيب كان محور النقاش زمرة أوسلو ورئيسها ورموزها وقصص فسادهم وإفسادهم ليس من منطلق الكراهية لفلان أو علان ولا لثأر شخصي معهم، بالتأكيد لا، الخلاف هو على منهج وفكر وممارسة ورأي تأثر بها كل فلسطيني أينما وجد، الإختلاف على سياسات وطروحات وليس على أفراد مهما علا أو قل شأنهم.

أساس الخلاف ينتهي بإنتهاء مبرراته فلو عاد عرفات ومن معه لصف الشعب وخياراته ومبادئه التي إرتضوا وبإرادتهم تركها لكنت أول من يصفق لهم، ولو تراجعوا عن غيّهم وفسادهم لكنت أول من يعمل معهم وأساندهم لما فيه خير الشعب، فالأصل هو أن الإختلاف على الرأي والفكر وليس على فرد أو منصب.

معنى ذلك أنه لو عادت زمرة أوسلو خطوة لعدنا أميال ولكنّا لهم السند والنصير لأن ما نطالب به ينبع من إعتقاد وإيمان داخلي بضرورة الوصول للأفضل وهذه المطالب لا تلتقي بأي حال من الأحوال مع المطالب الخارجية ذات الأهداف المشبوهة والتي تطمح لتنصيب كرزاي هنا أو علاّوي هناك، فهدفنا نبيل وهدفهم خبيث وشتان ما بين الإثنين.

هذا ما إستنتجه العم الطيب بخبرته وهدؤه وبصيرته فتحاور وناقش دون عتاب أو غضب أو تهديد!

أما المعاتب الغاضب الذي أرسل لي الرسالة المذكورة فينطبق عليه نفس المبدأ السابق أي أن الخلاف هو على الرأي وليس بين الأفراد والأشخاص أو على المناصب، خاصة إذا أخذنا في الإعتبار نوعية العلاقة التي تمدد لعام 1994 عندما إلتقينا أول مرة.

لو تمعن المعاتب المهدد في آن لعلم وأيقن أنه ما من شيء يمنع أيا منا من مهاجمة الآخرين في شخصهم وبشكل مباشر وما من شيء يمنع التجريح والقذف والإنتقاد غير الشريف مهما كانت الضغوطات والتهديدات التي عادة ما تزيد بني البشر عنادا! لكن هذا ليس القصد ولا النية ولا الأسلوب ولا الأخلاق فالإختلاف له قواعد وأسس، وكلنا خطاءون وخيرنا من تعلم من أخطائه وأخطاء غيره وندم عليها وتاب عنها.

لو ترك الصديق المعاتب الأمور السطحية الجدالية وأخذ الأمور كما هي دون "قراءة لما بين السطور" ودون تحليلات وإستناجات وإدعاء بمعرفة النية والقصد في الموضوع المكتوب المنشور الذي أثار حفيظته لهدأت النفوس وحل الخلاف، فخبايا وسرائر النفوس لايعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ولأن المعاتب يعلم جيدا أن اللف والدوران والتلميح دون التصريح في عرض رأيي ليس من عادتي - كما علمني والدي رحمه الله- وكما علمتني وفرضته علي الأخلاق والدين والأصول، فلا تأليب الناس عليه كما يظن وكما صرح ولا محاولة تدمير إنجازاته كما يعتقد وكما صرح هدف أو غاية والأهم أن المنصب يزول ونحن نزول ولايبقى إلا الذكر الطيب.

*****

لم يكن ما سبق عرضا لأخلاق فلان أو درسا لعلان أو مزاودة لزيد على حساب عمرو بل هي مصادفات مذهلة تمت في أقل من 24 ساعة وتصب في صلب ما تعانيه الغالبية التي تجهر برأيها وتصدح به من مخاطر وتهديدات لا تخفى على أحد، وهي مفارقات لا يملك المرء فيها إلا أن يقول سبحان الله، فهذا خلاف وذاك أيضا خلاف ولكن الفرق بينهما شاسع والسبب جد بسيط: عندما نحول الأمور إلى صراع شخصي وعندما نحملها ما لا تحتمل نقع في المحظور.

نعم نختلف ولكن في وضح النهار ودون مواربة وفي حدود الإحترام المتبادل واللياقة الأدبية، ودون تجريح أو تهجم أو تعرض للنفس أو العرض، وبشكل لا لبس فيه بعيدا عن القراءات الخاطئة "لما بين السطور".

نختلف ولا نتصارع ولا نتقاتل ولا يحق لأحدنا أن يحجر على الآخر أو أن يكمم فمه، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، ولا رغبة لدي بأن أكون أحدهم!

علينا جميعا أن نتعلم كيف نتختلف وفي نفس الوقت كيف يحترم كل منا الآخر بدلا من أسلوب التهديد والوعيد الذي لا يحصد إلا مزيدا من الكراهية والعناد والمواجهة وأقولها وبكل وضوح وصراح لن يجد فتيلا!

تحية للعم الطيب أبو محمد ذو القلب الكبير والعقل المتفتح الراجح وتحية لصديقي المعاتب المهدد والذي لا زلت أكن له المودة والتقدير - لكني وبالتأكيد أختلف معه- والذي أرجو له الخير والتوفيق بعيدا عن لغة التهديد التي لن تجد نفعا ولن توقف كلماتي أو قلمي، وأخيرا رحمة الله على والدي الطيب وغفر الله له ولنا جميعا وسدد خطانا.

د. إبراهيم حمامي

لمراسلة د. إبراهيم حمامي

تاريخ النشر : 10.10.2004