في خضم الأحداث المتسارعة والزيارات والجولات المكوكية التي بدأها عباس و"رفاقه" للعواصم العربية حشدا لجهوده وحملته ليصبح "الرئيس" القادم للسلطة الفلسطينية، إضافة لمنصبه على رأس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليتغير لقبه من المرشح الأوحد للرئيس المنتخب والشرعي، مستغلا وضعه التفوقي على باقي المرشحين، والتأييد والدعم الإعلامي المحلي والعربي والدولي، في خضم ذلك بدأت حملة موازية صامتة بعيدا عن الصخب الإعلامي، حملة من نوع آخر تضمن فوز المرشح الأوحد والرئيس المرتقب، تفاديا لمفاجاءات اللحظة الأخيرة.
هذه الحملة إنطلقت منذ مدة بمحاولات تزويير العقول وتزييف الواقع ومحاولات إقناع الناخب بأن المرشح الأوحد هو الإختيار الأوحد والأفضل بعد زوال عقبة السلام بموت عرفات وهو ما يحاولون تثبيته، وبأن المرشح الأوحد هو الأمل الذي سيجلب الخير والنماء للشعب الفلسطيني، ويوقف دوامة العنف، ويعيد عجلة الإقتصاد، وبأنه لا بديل عنه، والإجماع عليه والتصويت له مصلحة وطنية عليا.
إنتقلت هذه الحملة خطوة أخرى للأمام بعد إقفال باب الترشيح، لتخرج علينا مراكز إستطلاع الرأي وبشكل يومي بأرقام وإحصائيات وسبر للآراء لتظهر التفوق الملحوظ للمرشح الأوحد على حساب الآخرين وبفارق يتسع يوميا لصالحه، علما بأن نفس هذه المراكز ومنذ أسابيع ليست بالبعيدة لم تعط هذا المرشح أكثر من 2% من الأصوات، وبأنها ليست مستقلة تماما حيث يشرف على أغلبها من هم محسوبون على السلطة أو حتى وزراء سابقون فيها!
أيضا وفي إطار نفس الحملة المبرمجة يتم الضغط على المرشحين الآخرين للإنسحاب الواحد تلو الآخر، فالبرغوثي في معتقله لازال هدف الحملة الفتحاوية الشعواء لدفعه نحو سحب ترشيحه، وطابور طلبات الزيارة في إزدياد لإقناعه بالعدول عن رأيه، وسياسات لي الأذرع لم تتوقف مهددة بطرده من حركة فتح، وها هو حسن خريشة يعلن إنسحابه رسميا بعد بيان من العاصفة/فتح بتاريخ 08/12/2004 يتهجم عليه بشكل بذيء ومقزز ويطعن فيه من كل الجوانب وبأسلوب وضيع ونفاق غير معهود.
أما من تسول له نفسه أن يستمر في الترشح فجزاؤه التضييق ثم التضييق، فلا حملة دعائية، ولا تغطية إعلامية، ولا لقاءات، ولا بأس أن يساهم الإحتلال في ذلك بمنع تنقل المرشحين الآخرين بين المدن والمناطق، أو حتى ضربهم على الحواجز كما حدث مع مصطفى البرغوثي، وهو ما عبر عنه البروفيسور عبد الستار قاسم في رسالة رسمية وجهها للجنة المركزية للإنتخابات إحتجاجا على التحيز الإعلامي لصالح المرشح الأوحد، وهي الرسالة التي لم يتلق ردا عليها حتى اللحظة!
المنحنى الأخطر تمثل في تغيير المعيار الإنتخابي بشكل مشبوه ومريب، بمعنى الناخب الذي يحق له التصويت، حيث أصدر المجلس التشريعي المنتهية صلاحيته من سنوات، والمفترض أنه يعمل بشكل مؤقت، والذي لم يستطع تغيير أي قانون أو محاسبة أيا من الفاسدين، أصدر هذا المجلس قرارا أو تعديلا قانونيا بإعتبار السجل المدني إلى جانب سجل الناخبين الابتدائي هو المحدد لسجل الناخبين، ورغم أن الأمر قد يبدو منطقيا وواقعيا، ولكن لنعود بالذاكرة قليلا إلى الوراء لنستذكر رفض اللجنة المركزية للإنتخابات وبشكل قاطع ومستمر إعتماد السجل المدني كمصدر مكمل للسجل الإنتخابي تحت مسميات وأسباب سبق تناولها بالتفصيل منها قصور السجل وعدم تحديثه وغياب البعض خارج الوطن، ولنستذكر أيضا المصاريف الخيالية لحملة التسجيل في السجل الإنتخابي حيث:
أشرف على سجل الناخبين 3000 موظف وموظفة
إفتتح 1009 مراكز للتسجيل في التجمعات السكانية في الضفة والقطاع
أشرف على العملية 1500 وكيل لمراقبة التسجيل من 9 فصائل و2500 مراقب
من 78 مؤسسة أهلية
الحملة الدعائية شملت وعلى لسان بهاء البكري مسؤول العلاقات العامة والشؤون
الإنتخابية:
- 30 ألف (بوستر)
- 250 ألف ملصق
- 400 ألف مطبوعة متنوعة
- 200 لافتة كبيرة
- 600 إعلان مكتوب في وسائل الإعلام المكتوبة
- 10 آلاف إعلان في الوسائل المرئية والمسموعة (19 إذاعة و18 محطة تلفاز)
- إرسال رسائل عبر الجوال
الأسلوب الذي اتبعه المجلس التشريعي في إقرار هذا التعديل في جلسة واحدة بالقراءات الثلاث خلافاً للعرف الجاري، وخلافاً لروح القانون، سيؤدي حتماً إلى خلل واضح في إدارة العملية الانتخابية، وإعتماد السجل المدني يزيد إمكانية التلاعب في كشوف الناخبين، هذا التغيير من شأنه أن يصعب الإجراءات الفنية لعملية الاقتراع، وعملية المراقبة عليها ويضر ويشكك في نزاهتها وشفافيتها، ويمكن أن يعطي حق الاقتراع لأشخاص خارج الوطن أو أشخاص توفوا مما يتيح فرصة للتلاعب في الاقتراع. أيضا السجل المدني غالباً ما تكون العناوين الواردة فيه قديمة وغير محدثة مما يصعّب عملية التعرف على مكان الاقتراع، ويوفر إمكانية لأن يصوت المواطن في أكثر من مركز اقتراع، والقيام بالتصويت أكثر من مرة، كما أن السجل المدني لا يشمل مواطني القدس وآلاف الفلسطينيين ممن لا يحملون بطاقة هوية.
يبقى السؤال: ما الهدف من هذا التغيير المفاجيء، ولماذا الآن بعد إقفال باب الترشح والتسجيل؟ ولماذا "سلقه" بهذه الطريقة في التشريعي وفي جلسة واحدة؟ لا توجد إجابة مقنعة سوى الإستعداد لكافة الإحتمالات، وإبقاء الباب مفتوحا لتغيير النتيجة لضمان وصول المرشح الأوحد، وأي طريقة ستكون أفضل من تشويش السجل و"خربطته" وصعوبة تحديد الخلل إن حدث لتصبح النتيجة أمرا واقعا؟
التدخل لصالح المرشح الأوحد شهد أيضا تدخل لاعبين من العيار الثقيل، فبعد مبارك وباول ورايس، كشفت صحيفة «الديلي تلغراف» أن بريطانيا ستستضيف مؤتمراً دولياً لإحلال السلام في الشرق الأوسط في أوائل العام المقبل، وأنها حصلت على موافقة ومباركة الولايات المتحدة، وأضافت قائلة: إن الاعلان عن هذا المؤتمر يعتمد على انتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية، وهو المرشح الأوفر حظاً، والذي كان قد تفاوض حول اتفاقات أوسلو، أي أنه لا مؤتمر بدون إنتخاب عباس!
لم يفت روحي فتوح "الرئيس المؤقت" للسلطة الفلسطينية أن يدلي بدلوه فأصدر يوم 08/12/2004 قرارا "رئاسيا" يحدد الفترة الدعائية ويقلصها، ليكون وبشكل تلقائي المستفيد هو المرشح الأوحد الذي بدأ حملته فعليا بزيارات للعواصم العربية، حتى التي كانت وإلى فترة ليست بالبعيدة ممنوعة، تحت مسمى رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليستقبل ويظهر كرجل دولة من الطراز الرفيع ورئيسا معتبرا حتى قبل إنتخابه، مقلصا وماسحا فرص المرشحين الآخرين.
بعد كل ما سبق هل ما زلنا نؤمن بعدالة ونزاهة الإنتخابات القادمة، حتى وإن سلمنا جدلا بشرعيتها المفقودة في ظل سقفها الحاكم وهو سقف إتفاقات أوسلو؟
تزوير الإرادات ليس وليد الساعة بل بدأ يوم فرضت علينا قيادة تدعي أنها تمثلنا، لتصدر ما يناسبها من قرارات تصبغ الشرعية الزائفة عليها، وما الإنتخابات القادمة إلا فصل جديد من فصول أوسلو وإفرازاتها.
الخطورة تكمن في إعطاء اللاشرعي، والمتفق عليه مسبقا، الشرعية التي يفتقدها، وبنسبة كبيرة، ليخرج علينا صباح يوم 10/01/2005 متباهيا متفاخرا أنه الرئيس الشرعي المنتخب والممثل للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وليوقع بإسم هذا الشعب على ما تبقى من حقوق.
سيقول قائل أنه يجب إعطاء الشعب الفرصة ليسمع صوته ويقول كلمته في إختيار مرشحه بإرادته، وليحاول التغيير وممارسة الديمقراطية، ومع شديد إحترامي لهذا الرأي أتساءل: هل يمكن تغيير نتيجة تلك الإنتخابات في ظل ما سبق ذكره؟ وهل حقيقة يهم رأينا المرشح الأوحد؟ بكل أسف لا أعتقد ذلك.
حتى وإن كان الهدف هو المفاوضات أو المصالحة أو الهدنة فهل كتب علينا هؤلاء كقدر وأسلوب ومنهج أثبت فشله؟ وإن كان القصد إسماع صوتنا والتعبير عن رأينا فهذا لن يتم عبر صناديق الإقتراع حتى وإن ملأنا الدنيا صراخا لأن كل ما يريده المتربعون على السلطة الآن شرعية بنسبة عالية تختارهم من خلال صناديق إقتراع صورية، تثبتهم وتمنحهم ما يفتقدونه، دون أي إكتراث لما نقول.
لكن، كما يستطيع الناخب الإدلاء بصوته يستطيع أيضا حجب هذا الصوت، وهو بذلك يمارس حقه وبإرادته، التي يقول فيها "لا" بدلا من تزوير تلك الإرادة، أو أن يصبح شاهد زور على الفصل الجديد من مهزلة أوسلو. نستطيع إسماع صوتنا بشكل مختلف وأكثر تأثيرا، نستطيع ذلك بحجب تلك الأصوات، وحرمان هؤلاء من الأغلبية التي يتطلعون إليها سواءا في نسبة المشاركة والتصويت أو نسبة الفوز.
قد تبدو هذه دعوة سلبية وغير منطقية وغير واقعية، لكن الإنتخابات وبغض النظر مرة أخرى عن الفائز فيها تتم تحت سقف أوسلو ومكبلة بها وتحت إشراف ورضى الإحتلال، والإختيار بسيط: إما أن نقبل أن نكون جزءا من لعبة ملعوبة ومحسوبة، وإن كان هذا هو ما يريده الناخب فليكن، وهنيئا له المشاركة في لعبة مبرمجة، محسومة النتيجة، ومعروفة نهايتها حتى قبل بدايتها، وإما أن نفرض رأينا برفض المشاركة فيها، ومقاطعتها، عندها فقط قد، وأقول قد، يقف هؤلاء لمراجعة النفس بعد أن يحرمهم الناخب من الشرعية التي أرادوها.
الشعب الفلسطيني ليس أقل من باقي شعوب الأرض التي رفضت تزوير إرادتها وقالت "لا" رغم سنوات القمع والكبت الماضية، وفرضت إرادتها رغم محاولات فرض الأمر الواقع عليها، فلنأخذ العبر ونتعلم حتى وإن كانوا ليسوا بأفضل منا.
لنختار وبإرادتنا ما نريد، ولنعلنها صريحة:
"لا" للمشاركة في "اللعبة" لصالح المتلاعبين