جباليا ... يا جبل ما يهزك ريح
بقلم : د. إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي
صعدت قوات الإحتلال من حملتها العسكرية المتواصلة ضد السكان والممتلكات وإجتاحت الأجزاء الشمالية من قطاع غزة يوم 28/09/2004 - الذي صادف الذكرى الخامسة لإنطلاق إنتفاضة الأقصى- بمشاركة مئات الدبابات وآلاف الجنود والفرق الخاصة وبدعم جوي من الأباشي وطائرات الإستطلاع، وسط مقاومة باسلة وعنيفة إرتقى فيها الشهداء ليبلغ عددهم حتى ساعة كتابة هذه السطور قرابة السبعين شهيدا ومئات الجرحى.

هذا العدوان ليس الأول بل يأتي في إطار حملة مستمرة للقضاء على إرادة الشعب الفلسطيني في ظل صمت وتواطؤ عربي ودولي والأهم في ظل تخبط ووجوم ولا مبالاة من قبل سلطة أوسلو التي تتعامل مع الأحداث وكأنها طرف محايد يندد ويستنكر ويشجب ويدين ويرسل نداءات الإستغاثة، تماما كباقي الدول التي تبعد عن فلسطين آلاف الأميال!

حتى بيانات الإدانة تخرج خجولة على إستحياء ولا يتم التركيز عليها كما هو الحال عقب أي عملية داخل الخط الأخضر، والحق يقال أن سلطة أوسلو لا يسبقها أحد مهما كان في التنديد وبأقوى العبارات عقب كل عملية داخل الخط الأخضر مركزة على "المدنيين من الطرفين" لأنها ولا فخر السباقة وخلال ثواني (هذه ليست مبالغة فقد صدرت بيانات تنديد حتى قبل معرفة أسباب التفجيرات) لإصدار مثل هذه البيانات التي عادة ما يتبعها تصريحات لا حصر لها من قبل رموز هذه السلطة، أما عندما يتعلق الأمر بمناطق فلسطينية فلابد من عقد الإجتماعات والتشاور والتداول ولا بأس أن يخرج "بيان صحفي" بعد يوم أو إثنين صادر عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يعتبر ما يقوم به الإحتلال "بمثابة إعلان حرب" وكأن هذه اللجنة إكتشفت ما لم يكتشفه أحد!

حتى ننصف يجب أن نذكر أن بيان التنديد بالإعتداء على مقر "الرئاسة" الفارغ بالقرب من معبر بيت حانون "إيريز" كان حاميا وشديدا ومزلزلا بحجم "العمل الجبان" الذي إستهدف "رمزا رئاسيا"، بغض النظر عن الجرائم الأخرى التي كانت تتم على مقربة منه في بيت حانون وبيت لاهيا والتي لا تستدعي مثل هذا الموقف!

هذا التناقض والتضارب والإستهتار يجعل طلب المساعدة والتدخل من الغير غير منطقي، إذ كيف يمكن أن نطالب الغير بنصرتنا بينما تعجز سلطتنا الموقرة حتى عن إتخاذ موقف "سياسي" مشرّف كوقف الإتصالات مع الإحتلال أو التنسيق أو عقد الصفقات! بدلا من ذلك وبعد يوم واحد من إنطلاق عملية شارون الإجرامية تعقد الإجتماعات السرية حيث أفادت مصادر فلسطينية مطلعة يوم 30/09/2004 "بأن مباحثات أمنية عقدت بين مسؤولي أمن فلسطينيين وإسرائيليين في القاهرة. وقالت المصادر إن أجواء من السرية أحاطت الاجتماع حيث بحث الجانبان الانسحاب "الإسرائيلي" المعتزم من قطاع غزة. وأضافت المصادر : إن الوفد الإسرائيلي وصل القاهرة صباح أمس الأول قادما من تل أبيب. وغادر الوفد الفلسطيني الذي ضم مسؤولين أمنيين الضفة الغربية أمس متوجها إلى الأردن في طريقه إلى القاهرة. وأضافت أن الجانب الإسرائيلي قال إن الانسحاب لن ينفذ إلا بعد التزام الوفد الفلسطيني بتطبيق إجراءات أمنية في قطاع غزة لضمان أمن إسرائيل ولمنع هجمات الجماعات الفلسطينية على أهداف إسرائيلية".

لم يتوقف الأمر عند التنسيق والإجتماعات السرية بل تعداه إلى تطبيق وإلتزام بما تم الإتفاق عليه لتذكر مصادر فلسطينية مطلعة يوم السبت 02/10/2004 أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية طلبت في تعميم داخلي وسري من جميع عناصرها الانسحاب من كافة مواقعها شمال قطاع غزة وعدم المشاركة في صد الاجتياح، وأن يقوموا بتخبئة أسلحتهم في حال تم اجتياح كامل لقطاع غزة، وهو ما إستدعى تنديد بعض الفصائل. أما على الملأ فتعلن حالة الطواريء التي لا معنى لها سوى الظهور بمظهر من يقوم بشيء ما!

سلطة أوسلو عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها فها هو رئيسها محاصر وها هي قوات الإحتلال تقتحم مقر الشرطة في منطقة الحاووز بالخليل يوم 30/09/2004 (أي بعد إعلان حالة الطواريء الوهمية) وتحتجز 15 من أفراد شرطة أوسلو وتعيث فسادا لساعات قبل أن تغادر دون أن تحرك هذه الأجهزة ساكنا، أما لو كان الأمر مع المواطنين فالويل والثبور وعظائم الأمور وخير دليل عمليات المافيا والإعتقالات التي تمت مؤخرا في قلقيلية على خلفية التسجيل للعملية الإنتخابية.

هذه الأجهزة الأمنية والتي تعد عشرات الآلاف والمدججة بالأسلحة (التي رأيناها فوق أسطح مباني رفح في شهر تموز/يوليو الماضي من عيار 500 ملم في الصراع بين جناحي دحلان وعرفات) أصبحت وبدون مواربة أجهزة قمعية تستأسد فقط ضد أبناء شعبنا في حملات القمع والمداهمة بل وتطلق النيران على صدورهم في المسيرات السلمية أما في حالات الدفاع المشروع عن النفس في وجه العدوان المتواصل فالجحور هي مثواها وبأس المثوى.

تثبت سلطة أوسلو وأجهزتها القمعية فشلها وعجزها وإنهيارها والذي أصبح عبئا ثقيلا على كاهل هذا الشعب المقاوم والذي يدفع رواتب خيالات المآتى من أفراد "الأمن" من قوته ومن المساعدات الدولية التي يجب أن تصرف على إعادة الإعمار ودعم الصمود بدلا من صرفها على من "لابهش ولا بنش"، لكن لا حياة لمن تنادي إذ أصدر "الرمز المحاصر" الرئيس ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، يوم السبت 02/10/2004، قراراً يقضي بحسم أجرة يوم عمل واحد من كافة العاملين في مؤسسات المنظمة والسلطة لصالح دعم وتعزيز صمود الأهل في شمال قطاع غزة، الذين يتعرضون لعدوان إسرائيلي غاشم منذ أربعة أيام!

هذا هو الإستقطاع الثاني خلال 6 أسابيع (حسم راتب يوم في منتصف شهر آب/أغسطس لدعم الأسرى في إضرابهم) ولكن يبقى السؤال: أين تذهب هذه الإستقطاعات وكيف ستوزع لدعم ما يفترض أنها تدعمه؟ أم أنها ستقسم بالتساوي بين رموز "النضال" لوقفتهم البطولية ومواقفهم "المبدأية" الشجاعة في التصدي للعدوان بحناجرهم التنديدية والشاجبة؟ وهل حسم الرواتب بدعة جديدة إبتدعها "القائد الرمز" وعلينا أن نتوقع المزيد منها عقب كل عملية عدوانية جديدة؟

بقي أن نقول أنه في مثل هذا اليوم (الثاني من تشرين أول/أكتوبر) من عام 1187 (الموافق 17 من شهر رجب عام 583) إستعاد القائد صلاح الدين بيت المقدس من الصليبيين وفي مثل هذا اليوم من عام 1937 إنطلقت الثورة الكبرى الثانية في فلسطين والتي إستمرت حتى عام 1939، فيا لها من مصادفة أن تمر الذكرى الخامسة لإنطلاق الإنتفاضة وذكرى إستعادة بيت المقدس وذكرى ثورة عام 1937 في وقت يسجل فيه شعبنا وبالدم أروع ملاحم الحرية.

جباليا ... المخيم المكتظ بسكانه ال 120 ألف أثبت أنه الجبل الحقيقي (اللي ما يهزه ريح) وليست مقاطعة رام الله، وبيت لاهيا وبيت حانون وخان يونس سطروا الأمجاد لينضموا لجنين ونابلس وطولكرم ورفح وكل مدننا المحتلة.

الفرق واضح بين من يقف مدافعا صامدا في الثغور وبين من يجبن ويتوارى في الجحور ... فلا نامت أعين الجبناء .

د. إبراهيم حمامي

لمراسلة د. إبراهيم حمامي

تاريخ النشر : 09.10.2004