هل تكفي النوايا الحسنة؟
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

عملاً بنصيحة الكثيرين ممّن أحترمهم، وتقديراً لآخرين، وقطعاً للشك باليقين، آثرت مراقبة التطورات دون التعليق عليها، وقررت إعفاء قلمي من الكتابة ردحاً من الزمان، علّ وعسى أن تحدث المعجزة ونلمس شيئاً واقعياً على الأرض من الوعود الطنّانة الرنّانة من الإنجازات التي لم تتبلور فعلاً حقيقياً حتى الآن، هذا من طرفنا طبعاً، لأن الطرف الآخر المتمثل في الإحتلال وحكومته لم يتوقف لحظة واحدة عن جني ثمار سياسة حسن النوايا التي تنتهجها قيادة سلطة أوسلو.

شهران منذ لقاء شرم الشيخ وإعلان التهدئة، وثلاثة منذ تولي عبّاس منصبه الجديد رئيساً لسلطة أوسلو، وخمسة منذ رحيل عرفات، والحصاد حتى اليوم، وحتى لا نقسوا على سلطة أوسلو ونقول صفر مكعب، أقول حصاد يكاد لا يرى إلا بالمجاهر المكبرة.

لايخلو مقال أو موضوع أو حوار أو نقاش من التأكيد على حسن نوايا عبّاس وصدقه وجديته في الإصلاح والشفافية والنهوض بالوطن والمواطن، وبغض النظر عن إختلاف الآراء، دعونا نفترض جدلاً صحة هذا الطرح، أي النية الحسنة والصادقة في التغيير للأفضل، وبأن عبّاس يختلف عن سلفه قلباً وقالباً، وبأنه واضح الفكر والطرح – وهذه جزئية لا يمكن انكارها- ، لنفترض كل ذلك ونتساءل من بعد: هل تكفي النوايا الحسنة؟ وهل يمكن لتلك السياسة أن تحرر الأرض وتحقق الإستقلال والحرية للمواطن وتصل بنا إلى حقوقنا المشروعة متّكلين على شريك السلام الجديد شارون؟

عبّاس وفي لقائه الأخير مع كتّاب وصحفيين يوم 04/04/2005 طالب منحه مزيداً من الوقت قائلاً وبالحرف: " الإجراءات التي تمت حتى الآن هي البداية ولكن النتائج لاتحدث بين يوم وليلة ولاتوجد لدينا عصا سحرية، إلا أن لدينا العزم والتصميم على المضي قدماً في خطواتنا".

حسن خريشة، النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي أشار في لقاء قبل يومين إلى حسن نوايا عبّاس والعوائق التي يواجهها من مافيا الفساد، وهو ما كرره ناهض الريس وزير العدل السابق في لقاء مع موقع اسلام أون لاين بتاريخ 05/04/2005، وكذلك أحمد الديك عضو المجلس الثوري لحركة فتح، وعدلي صادق الكاتب ووكيل الوزارة وغيرهم.

لست بصدد طرح أسئلة إفتراضية، تحمل إجابات توقعية، لكن ما جرى ويجري على الأرض يؤكد حقيقة واحدة هي أننا نعيش وهماً اسمه "النوايا الحسنة"، وهم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ففي الوقت الذي يكرر محمود عبّاس في كل مناسبة تمسكه بعملية السلام وتفاهماته "الشفهية" مع شارون، والإلتزامات المعلنة وغير المعلنة، واعداً تارة ومهدداً أخرى، ليقيل المئات ويعزل الآلاف وغيرها من إجراءات "حسن النوايا" لكسب ود شريك السلام، لايألوا هذا الشريك وأركان حكومته الإحتلالية جهداً ولايضيع وقتاً في تكريس الإحتلال وتوجيه الصفعات لسلطة أوسلو ذات النوايا الطيبة، وتغيير الواقع على الأرض، دون الإلتفات لمناشدات وتوسلات عريقات ودحلان وغيرهم ممن يشكون ليل نهار من محاولات شارون المتكررة إفشال عباس، ولا لمطالبات بوش بوقف الإستيطان!

وحتى لا يدعي من يدعي وكالعادة أن ما سبق هو مجافاة للحقيقة وادعاء بلا بينة أو مضمون، لنستعرض سوياً سلسلة الأحداث الأخيرة منذ "تفاهمات" شرم الشيخ، متغاضياً ومتجاوزاً الفوضى والزعرنات "الرسمية" في مناطق سلطة أوسلو، ومتغاضياً أيضاً عن قضايا وفضائح الفساد التي بدأت تطفو على السطح بملايينها التي نهبت وهرب أصحابها خارج البلاد، وعن كل التصريحات والتصريحات المضادة من أبطال أوسلو وضباطها المعزولون والمرقون، مركزاً على إجراءات الإحتلال التي يتفرج عليها أركان سلطة أوسلو مطالبين بالمزيد من الوقت، ربما لإستكمالها فرضاً للأمر الواقع، أو ثقة في الشريك الجديد ضمن سياسة النوايا الحسنة:
  • لم تتوقف حملات المداهمات والإعتقالات وطالت حتى من أفرج عنهم ضمن الصفقة المعروفة بحجة نشاطهم "الإرهابي" ، وما زال الشهداء والجرحى يسقطون برصاص الإحتلال وآخرهم الجرحى بجراح خطيرة في بلدة سلفيت
  • تعرض أفراد شرطة أوسلو للضرب والإهانة يوم الثلاثاء 05/04/2005 في مدينة الخليل دون أن يحرك قادتهم من الضباط الأشاوس ساكناً وكأن الأمر لا يعنيهم
  • بإعتراف محافظ الخليل عريف الجعبري رُُشت مساحات شاسعة ممتدة من منطقة يطا حتى بئر السبع جنوباً وحتى عين الجدي شرقاً بمواد سامة تستخدم في قتل الجرذان أدت لنفوق أعداد من الماشية ولتهديد الأبار الجوفية وبالتالي حياة المواطنين
  • تسعى سلطات الإحتلال لإقامة مكب للنفايات في بطن جبل وسط عدة تجمعات سكانية فلسطينية لا تبعد عنه المنازل السكنية سوى 500 إلى 1500 متر ولا يفصله عن أربع أبار جوفية تزود سكان مدينة نابلس وقرى دير شرف وبيت ايبا وقوصين وزواتا والناقورة باحتياجاتهم من مياه الشرب سوى كيلومتر واحد على أبعد تقدير، وقد أوكلت الأشغال إلى شركة "بارون انداستريال بارك" التي ستجمع هذه النفايات أولا في موقع "هاداريم" ثم تنقلها الى محجر أبو شوشة.
  • لم تتوقف عمليات مصادرة الأراضي ليعلن الجعبري أن 54% من أراضي الخليل أصبحت الآن مصادرة، وليكشف المكتب الوطني للدفاع عن الأرض و مقاومة الاستيطان عن أنّ مساحة الأراضي التي تمت مصادرتها أو وضع اليد عليها أو الاستيلاء عليها من قِبَل المستوطنين في شهري شباط و آذار 2005 بلغت حوالي 93132.5 دونماً رغم ما أعلن عنه من تفاهمات مع السلطة الفلسطينية في شرم الشيخ.
  • أعادت سلطات الإحتلال الحواجز التي أبعدتها لأمتار محدودة حول أريحا وطولكرم ولم تنفذ إنسحابات أخرى ولو شكلية
  • استمرت سلطات الإحتلال في سياسة هدم المنازل لتقرر مؤخراً هدم 90 منزلاً تضم أكثر من 150 عائلة فلسطينية في منطقة البستان ببلدة سلوان في القدس المحتلة الأمر الذي سيؤدي إلى تشريد أكثر من 800 فلسطيني.
  • خلال الشهرين الأخيرين ومنذ شرم الشيخ اتخذت سلطات الإحتلال وبشكل رسمي سلسلة قرارات عديدة لتثبيت الاستيطان و مصادرة المزيد من أراضي المواطنين الفلسطينيين لصالح الجدار الفاصل أو ضمّها لأراضي ما وراء الخط الأخضر ، و من هذه القرارات التي صدرت خلال شهري شباط و آذار لهذا العام ما يلي:
  • 1. إقرار مخطّط بناء 400 وحدة سكنية بجوار "قبة راحيل" / مسجد بلال بن رباح في مدينة بيت لحم من الأسبوع الثاني من شباط .
    2. قرار رئيس حكومة الإحتلال بالمصادقة على المسار الجديد لجدار الفصل في مقطعٍ جنوب و شرق مدينة القدس المحتلة (جوار قبة راحيل و مستوطنة معاليه أدوميم) .
    3. الإعلان عن مخطّط "دائرة أراضي (إسرائيل)" لبناء 6391 وحدة سكنية استيطانية في مستوطنات رئيسية في الضفة الغربية ، و هذا يزيد 3.5 مرة عن الوحدات المسوقة في عام 2004 و 5.5 مرة عن تلك التي سوّقت عام 2003م .
    4. قرار تعديل مسار الجدار الفاصل جنوبي الضفة الغربية ، الأمر الذي سيؤدّي إلى ضمّ 9.5 % من أراضي الضفة إلى الدولة العبرية (بما في ذلك 2 % من مساحة الضفة في محيط مدينة القدس المحتلة) مع ملاحظة أنّ مساحة 1.2 % من المساحة التي سيلحقها الجدار بمستوطنة "معاليه أدوميم" ستكون بمثابة عازلٍ شماليّ للمدينة من شمال الضفة.
    5. قرار بتوسيع مستوطنة "معاليه أدوميم" على شكل إصبعٍ يمتدّ جنوباً على مسافة 13كم في عمق الضفة الغربية، و إضافة 3500 وحدة سكنية جديدة إليها . و ذلك في إطار مخطّط الربط بين "معاليه أدوميم" و القدس المحتلة ، و سيتمّ البناء على مرحلتين و على مساحة 12 ألف هكتار.

  • الجدار الفاصل مستمر في التهام أراضي الضفة الغربية لتكون الصورة النهائية لتأثير بناء الجدار على أراضي الضفة الغربية كما يلي :


  • - أراضٍ ستقع غربي الجدار : 419 كم2 ، ما يعادل 7.4 % من مساحة الضفة الغربية .
    - أراضٍ معزولة في جيب مستوطنة "أريئيل" : 169 كم2 ، ما يعادل 2.1 % من مساحة الضفة الغربية .
    - كتلٌ استيطانية شرقي الجدار محاطة بجدرانٍ عازلة و أسيجة : 1613 كم2 ، ما يعادل 28.5 % من مساحة الضفة الغربية .

    و يكون بذلك المجموع النهائيّ للمساحات المصادرة و المأخوذة من مساحة الضفة الغربيّة: 2604 كم2 ، ما يعادل 46 % من مساحة الضفة الغربية .

    · الإستمرار في سياسة الإذلال على المعابر وإضافة ما سميت بغرفة الموت الإشعاعية، ومرة أخرى دون اعتراض أو احتجاج من قبل سلطة أوسلو ورئيسها.

    كل ما سبق هو الجزء الذي عُرف من ممارسات الإحتلال وما خفي أعظم، والمحصلة صفعات متتالية لسياسات عبّاس ذات النوايا الحسنة!

    رغم كل ذلك يصر البعض على إعطاء المزيد من الوقت، لكن لأي غرض وهدف، وماذا سيتبقى من وطننا بعد إعطاء هذا الوقت؟ أكرر السؤال مرة ثانية، هل تكفي النوايا الحسنة؟ بكل تأكيد وثقة ودون تردد لا وألف لا، لأن هذه السياسة لم ولن تحقق شيء للشعب الفلسطيني سوى ضياع الحقوق، اللهم إلا الإفراج عن بضع مئات ممن قاربت محكوميتهم على الإنتهاء وانسحابات وهمية لأمتار معدودة خارج أريحا وطولكرم.

    طلب مني أحدهم في رسالة الكترونية الكف عن التشاؤم والسوداوية لأن الشعب في حالة يرثى لها ويحتاج لرفع المعنويات بدلاً من تثبيطها، وهذا تحديداً سبب سرد كل هذه الوقائع، بمعنى عدم الوقوع في فخ الأوهام والوعود الجوفاء وكأن الأمور على خير ما يرام، ولدق ناقوس الخطر أن الوطن يضيع ويقضم تدريجياً بمباركة سلطة أوسلو الصامتة والغاطسة في أوهام الواقعية والإعتدال والإصلاح، وهي الكلمات التي باتت بلا معنى في ظل الإحتلال وممارساته المستمرة.

    منح عبّاس وسياساته المزيد من الوقت يعني المزيد من ضياع الأراضي والحقوق، وفرض أمر واقع يتم القبول به بحجة الواقعية، لندفع كشعب تحت الإحتلال فواتير جديدة لسياسات فاشلة.

    المطالبة بمزيد من الوقت لتحقيق التغيير والإصلاح هي هروب من الإستحقاقات في مواجهة الإحتلال وممارساته، فحتى لو أصبحنا الديمقراطية الأولى في العالم التي يتغنى بها الجميع، وحتى لو حققنا المجتمع الفاضل، وبتنا مضرب المثل في نظام الحكم والتعددية، فهل سينهي ذلك الإحتلال البغيض الذي يسعى للقضاء علينا وعلى حقوقنا بشتى الوسائل؟ وهل علينا السير حثيثاً نحو "الإصلاح" متغاضين عن ضياع الوطن والحقوق؟ أم أن أولوية الأولويات التصدى للإحتلال ووقف ممارساته وفضحه أمام العالم بدلآً من منحه صك البراءة كما حدث في شرم الشيخ، ولنقنع أنفسنا أن شارون رجل ومزارع طيب كما وصفه عبّاس عام 1998 حتى وان ذبحنا ليل نهار لأننا ننتهج سياسة النوايا الحسنة!

    أما الإصلاح فالمنشود منه يكون بعد زوال الإحتلال، والموعود أصبح كلمة حق أريد بها باطل لتدجين باقي الفصائل وجرها لبيت الطاعة المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية التي قتلها إتفاق أوسلو، وهو مدخل لتبرير القضاء على المقاومة بحجج عديدة منها وحدانية السلطة والسلاح الشرعي وغيرها من الأقاويل والشعارات، وهو إصلاح منقوص يقصد منه إلهاء الشعب عن القضايا الرئيسية خاصة الإحتلال.

    في الماضي علّق عبّاس فشله عندما فُصّل منصب رئيس الوزراء على مقاسه، علّقه على عرفات واستقال بخطبة عصماء أمام التشريعي يوم 04/09/2003 وقرر أن "يحرد" في منزله، لكنه الآن ورغم فشله الذريع يصر أنه يسير في الطريق الصحيح، ويصر على الإستمرار في سياساته رغم كل ممارسات الإحتلال التي تحظى دائماً برضا وقبول الإدارة الأمريكية التي يعول عليها عبّاس ويضع كل آماله في سلة رئيسها.

    محمود عبّاس صادق النية، جاد، واضح الفكر والنهج، ليكن، لكن كل ذلك فشل في تحقيق شيء ملموس، وفي عهده الميمون تضيع الحقوق في ظل صمت يصل حد المؤامرة، فإن كانت النوايا الحسنة والإعتدال تقابل بالإهانة والنكران والإستهزاء والإزدراء من قبل شارون وجنرالاته، فإن الوقت قد حان ليثور عبّاس على نفسه ونواياه ويقلب الطاولة على الجميع إن كان حقاً جاد وصادق فيما يسعى إليه، وما دون ذلك على كل من يطالب بالمزيد من الوقت أن يتحمل مسؤولية ضياع الوطن، لأن النوايا الحسنة لا تصلح مع الإحتلال.

    إنتظرت وترويت والتزمت بالنصيحة، وجاء الدور على من طالبني بذلك أن يرد على الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق ويثبت أن ما ذكرته هو أضغاث أحلام وأن شارون شريك حقيقي لتحقيق آمالنا، لأن أجازة قلمي إنتهت!

    د. إبراهيم حمامي

    DrHamami@Hotmail.com

    07/04/2005