ديمقراطية فتحاوية عتيدة !
بقلم : د.إبراهيم حمامي

د. إبراهيم حمامي

علت الأصوات داخل حركة فتح من هنا وهناك، وبدأ ترديد عبارات غريبة تنم عن تعصب حركي فئوي، وهجومات شخصية علنية في سوق الردح السياسي الجديد، أظهرت جميعها ما حاول الكثيرون إخفاؤه ولفترة طويلة من خلافات حادة وتيارات متباينة تعصف بالحركة المتآكلة بفعل أسلوب وعقلية قيادتها المتنفذة، وضياع وإنصياع كوادرها.

قد يبدو ذلك نوعا من الظلم والتجني على حركة عريقة كبيرة، لا ينكر أحد أنها تزعمت نضال الشعب الفلسطيني لعقود من الزمان، وأفرزت قيادات وزعامات تركت بصماتها في تاريخ هذا الشعب، ولها ثقل جماهيري وتأييد وتعاطف كبير، لكن ما جرى ويجري على الأرض يثبت حجم المأزق الذي تعيشه الحركة، والوضع الذي آلت إليه.

ما أن أعلن مروان البرغوثي نيته ترشيح نفسه لإنتخابات رئيس سلطة أوسلو حتى "داب التاج وبان المرج"، وإنقلبت الموازين "الديمقراطية" الفتحاوية، فأصبح من كان رمزا وطنيا نضاليا أسيرا، وقائد الإنتفاضة وكتائب شهداء الأقصى والمرشح الأوفر حظا لخلافة عرفات، أصبح وبقدرة قادر وبين يوم وليلة خارجا عن الإجماع الفتحاوي، أنانيا يضع مصلحته فوق مصلحة الحركة، خادما لمخططات شارون، مما يستدعي إتخاذ إجراءات صارمة ضده حتى ولو كانت طرده من الحركة التي أجمعت بشيبها وشبابها على المرشح الأوحد "المناضل" أبو مازن!

هذه هي الديمقراطية التي أجمعت عليها حركة فتح وهذه مقتطفات من الأمثلة الديمقراطية في وجه البرغوثي الذي قرر أن يمارس حقه في الترشح:

  • أول "الديمقراطيون" كان الفتحاوي الأصيل الطيب عبد الرحيم الذي قال: "هذا الموقف - يقصد موقف البرغوثي - مستغرب ومستهجن ولا ينسجم مع تقاليدنا الفتحاوية ولا ندري ما الأسباب التي دعت مروان إلي التقلبات السياسية؟ قبل أيام بايع أبو مازن لرئاسة السلطة ولكن اعتقد أن هذه التقلبات هي اقرب إلي العبث السياسي ومحاولة بائسة لتشويش على وحدتنا ولا أغالي إذا قلت لتشويش على وحدتنا الوطنية والأخ مروان تخلى عن فتحاويته ليرشح نفسه كمرشح مستقل. الفتحاوين لا يقبلوا أن يتخلوا عن فتحاويتهم مهما كانت الإغراءات ويبدو أن هناك أوهام ولا ندري ما هي الجهة التي دفعت بالموهومين لفعل ذلك نطمئنكم إن الأطر الفتحاوية تلتف حول مرشحها الوحيد أبو مازن ولا شك أن أي خروج عن الأطر الفتحاوية هو اعتداء على فتح - ويا جبل ما يهزك ريح"، لكن هذا الطيب لم يشرح ما هي الفتحاوية تحديدا. لم يكن موقف "الطيب" مستغربا بقدر ما كانت عباراته، فهو خرج من إجتماع للمركزية ليمارس دوره الذي لا يجيد غيره في التضليل السياسي وهو ما فعله طوال 3 أسابيع هي فترة مرض عرفات، والتي تحول فيها إلى طبيب أخصائي يمارس التمويه المنظم.

  • صدرت بعد ذلك بيانات عديدة تهاجم البرغوثي، من أسرى حركة فتح في المعتقلات التي أكدت "أن فتح وقراراتها ليست مزاجية ولا فئوية ولا استرضائية وبناء عليه فإننا نؤكد تأييدنا للأخ المناضل محمود عباس "أبو مازن" مرشحا للحركة في انتخابات رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية"، إلى حركة الشبيبة الفتحاوية الصحفية التي إعتبرت ان هدف خطوة البرغوثي هذه " هو شق الصف التنظيمي وخلق حالة من البلبلة وتشويه الموقف الفتحاوي" مطالبة "باتخاذ كافة القرارات والاجراءات بحقه كمنشق يسعى لتحقيق مكاسب شخصية ".

  • أيضا نددت حركة فتح في جمعية المحاسبين والمراجعين الفلسطينية في قطاع غزة بقرار البرغوثي ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة الفلسطينية قائلة: "اننا ندين الخطوة غير المسئولة من مروان البرغوثي بترشيح نفسه لهذا المنصب خارج الموقف الحركى ولاعتبارات شخصية بحتة ".هذا الرأي الذي كررته أكثر من جهة وأكثر من بيان وصلت لحد المطالبة بفصل وطرد البرغوثي من حركة فتح.

  • وأخيرا جاء دور القادة الديمقراطيين التاريخيين للحركة والذين مثلهم عباس زكي، حيث توعد زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح باتخاذ اجراءات بحق البرغوثي بعد استكمال المعلومات حول الكيفية التي تغير بها موقفه وقراره بالترشح لانتخابات الرئاسة. وقال ان اللجنة المركزية للحركة توقفت في اجتماعها الاخير أمام موضوع اعلان البرغوثي لترشيحه وقررت استكمال المعلومات الخاصة بالقرار قبل اتخاذ أي اجراء.

  • وأوضح أن حالة من الاستغراب والاستهجان سيطرت على أعضاء اللجنة بعد هذا الاعلان خصوصا وان البرغوثي سبق وأعلن عن مبايعته لمرشح الحركة الرسمي للانتخابات محمود عباس.

    جميع هذه الأصوات والبيانات إرتكزت في هجومها على مبدأ واحد وهو تراجع البرغوثي عن قرار دعمه لعباس، لكن ماذا عن تراجع حركة برمتها، بقياداتها ومؤسساتها وكوادرها، عن مواقفها السابقة التي كانت توصف بالثابتة، والتي كانت ترى في مروان البرغوثي الشخص الأفضل بعد عرفات لقيادة الحركة والشعب الفلسطيني، والتي كانت تنظر لعباس بإعتباره إختيارا أمريكيا مشبوه، وبأنه من تنكر لعرفات وقاطعه وتآمر عليه لسحب صلاحياته حتى أطلق عليه لقب كرزاي فلسطين؟

    كيف يمكن تبرير هذا الإنقلاب المفاجيء في المواقف التي وإن أثبتت شيء تثبت أن "الديمقراطية الفتحاوية" الرسمية هي ديمقراطية عمياء عرجاء، ترفض حتى أبنائها وزعمائها، ولا ترتكز على أسس أو مباديء إلا ما يضمن المصالح، وكيف سيكون تعامل هذه الحركة مع الآخرين من خارج الحركة ؟

    ما يثير الدهشة فعلا أن كلا من عباس والبرغوثي يطرحان نفس البرنامج، ولا خلاف مطلقا بين طروحاتهما، فكلاهما مؤيد وساهم في إبرام إتفاقية أوسلو، وكلاهما يؤيدان خارطة الطريق، وكلاهما وافق وبارك وثيق جنيف، وكلاهما يقبل بالتفاوض مع الإحتلال على أساس دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في سلام وأمان – أين المشكلة إذا؟ ولماذا الإجماع على عباس المرفوض بالأمس، ورفض البرغوثي الذي كان صاحب الحظ الأوفر حتى أيام مضت؟ ولماذا قررت حركة فتح دعم عباس ورفض غيره مهما كان؟

    لا يوجد تفسير حقيقي لذلك سوى المصالح الشخصية الفئوية الضيقة، حيث يحظى عباس بدعم عربي ودولي غير مسبوق جعل التدخل لصالحه سمة يومية، وعلى لسان "الكبار" مثل الرئيس المصري مبارك ووزير الخارجية الأمريكي كولن باول، وهو الضامن لبقاء الإمتيازات الشخصية لرموز سلطة أوسلو، وإستمرار مصالحهم، وهو الذ بدأ فعليا بممارسة مهام لم يتسلمها رسميا بعد، فأمر بوقف التحريض! وتحدث عن "لفلفة" حق العودة، ووضع خطة لجمع السلاح "غير الشرعي"، علما بأن السلاح الوحيد الذي مارس الزعرنات والتجاوزات هو سلاح حركته وأجنحتها المتصارعة.

    في المقابل فإن البرغوثي، ورغم علامات الإستفهام الكبيرة التي يطرحها الكثيرون حول ظروف إعتقاله، والبهرجة الإعلامية التي صاحبت محاكمته، ولجان الدفاع عنه دونا عن الأسرى الآخرين، والسماح لزوجته بزيارته يوم إقفال باب الترشيح رغم منع الكثيرين من الوصول لمركز الترشيح، ووسط تصريحات قادة الإحتلال بإمكانية إطلاق سراحه، والحديث عن عقد صفقات معقدة تشمل عزام عزام وجوناثان بولارد لإطلاق سراحه، ورغم الشكوك أن كل ما يجري هو محاولة مدروسة ومحسوبة لتلميعه ليكون الرمز القادم، إلا أنه في واقع الأمر لا يختلف عن عباس في برنامجه الذي يطرحه بل يمكن القول أنهما وجهين لعملة واحدة، لكن الفارق أنه لا يملك الآن أن يضمن إمتيازات ومصالح "الديمقراطيون" الفتحاويون.

    المعضلة إذا ليست في الأشخاص أو الأسماء المطروحة ذات الإتجاه الواحد ومن داخل الحركة ذاتها، المعضلة هي في الحركة نفسها، وفي ممارسات قياداتها، وأسلوب التفكير، والتراث الحركي الذي يرفض الآخر ويتنكر للجميع وبغض النظر عن مكانة هؤلاء، وهو ما نلاحظه في التعتيم وقتل موضوع مرض وموت عرفات داخل الحركة نفسها.

    المعضلة في عقلية التفرد والتسلط والإستئثار بالسلطة وفرض الرأي، وعقلية القمع والإبتزاز وسياسات المصالح الفردية الضيقة، حتى لو كانت على حساب المصلحة العامة، والأهم عدم الإعتراف بالخطأ وأخذ العبر من دروس الماضي، والإصرار على إتباع نفس النهج حتى وإن أثبت فشله، وإلا كيف تنقلب الموازين والولاءات بهذا الشكل المريب، ويتم تبرير المواقف على أساس المصالح الضيقة، وبغض النظر عن المطروح من أفكار ومواقف؟

    هذه العقلية "الديمقراطية" عبّر عنها أحد "عتاولة" الحركة ومنظريها والموظف برتبة وكيل وزارة والذي يكتب بإسهاب وبشكل يومي، وفي بعض الأحيان 3 مرات في اليوم الواحد، ليكيل الإتهامات يمنة ويسرة مدافعا عن حركته، ليقول في شهر آب/أغسطس الماضي تعقيبا على الإنتخابات النقابية التي خسرتها فتح: "لكننا ـ كفتحاويين ـ لا نتقبل فكرة الإمتثال للأمر الواقع، الذي يُنتج حقائق متتابعة، لغير صالح الحركة النضالية العريقة، و"فتح" في سليقتها، تستجمع نفسها، وتؤثر، كلما كانت المواجهة مع المحتلين أقرب، لكنها تترهل، عندما تبتعد المواجهة، لأنها بطبيعتها حركة تحرر، وليست حزباً ذا أيديولوجية لها رؤيتها، لكيفية إدارة شؤون الحياة وتفصيلاتها!".

    لن يعجب رأيي هذا من يعيش في أجواء "غلابة يا فتح غلابة" وشعارات "أنا إبن فتح ما هتفت لغيرها"، لكن الوضع الراهن لم يعد يحتمل المجاملات واللباقات السياسية والتمسك بالشعارات البالية وعقليات جمهورية الفاكهاني.

    لا أرى أملا يذكر في قيادات حركة فتح التي عفا عليها الزمان، لكن الأمل كل الأمل في كوادر وعناصر فتح المتواجدة على الأرض والتي تشكل القاعدة الرئيسية للحركة، والتي تعي جيدا أين هي مصلحة الشعب الفلسطيني، والتي يقع على عاتقها مسؤولية عقد المؤتمر العام للحركة والمؤجل لسنوات طويلة، وإفراز قيادات جديدة تمثل توجهات الحركة، وتعيد لها وجهها القيادي النضالي، ولتحاسب كل من فرط ويفرط، ولتبتعد عن عقليات القيادات الحالية التي لا ترى إلا مصالحها وإمتيازاتها.

    ديمقراطية غابة البنادق، والزعيم الخالد، والمرشح الأوحد، والممثل الشرعي والوحيد، والشرعية الثورية، والتاريخ النضالي، وغيرها من الشعارات بإسم الديمقراطية "الفتحاوية" لم تعد تصلح أو ذات تأثير كما في السابق، فمن يطرح هذه الشعارات الديمقراطية بات يطعن في الآخر الذي يطرح نفس الشعارات!

    لم يفت الأوان بعد، لكن إن وقعت الفأس في الرأس فستكون حركة فتح أولى ضحايا الزعيم الجديد القادم، وستكون أجنحتها المختلفة كبش الفداء لضرب الآخرين ولتمرير خارطة الطريق التي أعدها بوش وعدّلها شارون (104 تعديلات فقط لاغير) وسوّقتها كونداليزا رايس، والتي تنص تحديدا في مرحلتها الأولى على ضرب مقاومة الشعب.

    لنقف لحظة حياد، ولنفكر بعيدا عن تعصب الجاهلية الأولى، وبعقل متفتح لا يفرق بين فلسطيني وآخر، وبعيدا عن المصالح، لنختار الأفضل والأنسب، ولنعيد لقضيتنا العادلة وجهها المنير الباهر
    د. إبراهيم حمامي

    DrHamami@Hotmail.com

    05-12-2004