حسابات الربح والخسارة في قرار محكمة لاهاي
بقلم : د. إبراهيم حمامي *
في سابقة هي الأولى من نوعها صدر قرار محكمة العدل الدولية بشأن جدار الفصل العنصري، ومما لاشك فيه أن تداعيات القرار ونتائجه ستحظى بإهتمام وتغطية واسعة لأيام بل لأسابيع قادمة وبتحليل مكثف لبنوده وفقراته والأهم أن أطرافا عدة ستسعى للإستفادة منه وتجييره لصالحها إما نصرا أو هزيمة إعلاميا وسياسيا ولكن قبل الدخول في حسابات الربح والخسارة لنستعرض أهم ما جاء في هذا القرار التاريخي:
أكدت المحكمة شرعيتها للنظر في مسألة الجدار الفاصل رافضة إدعاءات الإحتلال والولايات المتحدة بأنه مسألة سياسية بحتة: "المحكمة لاتقبل بالرأي الذي يقول أنها غير مختصة بسبب الصفة السياسية للمسألة المطروحة وبناءا عليه فإن المحكمة مختصة بإصدار الرأي الإستشاري".
رفض الحجج الأمنية وإعتبار بناؤه إنتهاكا بموجب القانون: "الجدار لا يمكن تبريره بالضرورات العسكرية أو متطلبات الأمن القومي أو النظام العام"
المطالبة بإنهاء الوضع غير القانوني للجدار معددة الإنتهاكات: "يعد بمثابة ضم للأراضي الفلسطينية" "يعوق بشدة حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير" "يعيق حرية تنقل الفلسطينيين وحقهم بالعمل وبالصحة وبالتعليم"
الطلب وبشكل واضح وصريح ليس فقط بإزالة الجدار ولكن بالتعويض عن الأضرار: الإحتلال "عليه إلتزام بأن توقف على الفور أعمال البناء" و " من واجب "إسرائيل" إصلاح كل الأضرار التي سببها الجدار على أرض فلسطينية محتلة بما في ذلك الأضرار داخل القدس الشرقية وما حولها" "ترى المحكمة كذلك أن "إسرائيل" ملزمة بتقديم تعويضات عن الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أو الإعتباريين المعنيين"
إعتبار "إسرائيل" قوة إحتلال ملزمة بمقتضيات القانون الدولي وإتفاقات جنيف بمسؤوليات هذا الإحتلال: " إن الأراضي التي تحتلها "إسرائيل" منذ 37 سنة تخضع لقوانينها الترابية بصفتها قوة الإحتلال ولذلك فهي ملزمة بمقتضيات المعاهدات التي تضمن الحقوق الإقتصادية والثقافية والإجتماعية وأكثر من ذلك فهي ملزمة أن لاتقيم أي حاجز يحول دون تنفيذ هذه الحقوق"
لم تكتف المحكمة بذلك بل طالبت بإجراءات فاعلة وعلى الأرض لوقف بناء هذا الجدار: "كل الدول من واجبها عدم الإعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن بناء الجدار وعليها الإمتناع عن تقديم المساعدة أو العون في الإبقاء على هذا الوضع"
البند الأخير طالب "الأمم المتحدة وخصوصا الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن البحث في الخطوات التي يجب القيام بها لإنهاء الوضع غير القانوني الناجم عن بناء الجدار" منتقدا بشكل غير مباشر ولكن واضح الولايات المتحدة: "مجلس الأمن لم ينفذ مهامه بسبب صوت سلبي" لدى التصويت على قرارات متعلقة بالجدار مشيرا إلى أن"المسوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تمثل إنتهاكا للقانون الدولي"
هذه كانت أهم فقرات القرار التاريخي وغير المسبوق وربما الأول من نوعه منذ أكثر من 5 عقود، وأهميته لاتكمن فقط في صدوره فقط ولكن لأنه تجاوز كل العراقيل السابقة المعتادة والتي كانت تضعها الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها لمنع أي قرار عادل يحق الحق وينصف المظلوم.
أهميته أيضا كانت في الإقرار بأن الأراضي الفلسطينية هي أراض محتلة حسب القانون الدولي وأن الإحتلال مسؤول عن إدارتها رغم وجود "السلطة الوطنية الفلسطينية" التي لاسلطة لها إلا في إسمها (وهو ما سبق أن تعرضت له في مواضيع سابقة مطابا بحل هذه "السلطة" لرفع الغطاء الشرعي عن الإحتلال).
حتى قبل صدور القرار وبعد تسريباته للصحافة بدأت حسابات الربح والخسارة بين الأطراف المختلفة ف"إسرائيل" رفضته حتى قبل عرضه على المحكمة وأيدتها في ذلك الولايات المتحدة معتبرة نفسها ضحية لمعاداة السامية وللتحيز الظالم ضدها مؤكدة إستمرارها في بناء الجدار الذي حقق لها إنتصارا على الإرهاب!!
"سلطة أوسلو" بدورها بدأت محاولات حني الثمار مبكرا فالتصريحات ملأت الصحف والفضائيات من عرفات إلى قريع إلى شعث وغيرهم ليصوروا الأمر وكأنه إنتصار مؤزر لسياساتهم الفاشلة والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من تشرذم وإنعدام لأية رؤية سياسية.
محاولة إستغلال القرار لبعث الحياة من جديد في "سلطة أوسلو" الميتة وترديد الإسطوانة المشروخة بأن الحل السلمي وطاولة المفاوضات هما الخيار الأوحد وأن السلطة هي أمل الشعب وهدفه الأسمى وصاحبة الفضل في صدور هذا القرار تصطدم بحقائق عدة تفند هذا الإدعاء أهمها الغياب التام والكامل عن كل أشكال وفعاليات مقاومة الجدار من تظاهرات وإعتصامات وإضرابات فلم نر يوم أي مسؤول "أوسلوي" يتظاهر أو يعتصم اللهم إلا التنديد الخجول من فينة لأخرى!
أيضا قام "وزراء أوسلو" ومن خلال جريمة تسريب الأسمنت المصري للمساهمة في بناء الجدار العنصري بإضعاف حقيقي للموقف الشعبي وخيانة لقضاياه وحقوقه مذكرا أن رأس الهرم "الأوسلوي" لازال يرفض فتح أي تحقيق في هذا الملف المخزي.
محكمة العدل الدولية تجاهلت في قرارها هذه "السلطة" تماما فهي تصدر رأيا إستشاريا قانونيا ولايمكن إضفاء شرعية على من لاشرعية له، فقرار المحكمة أكد أن "إسرائيل" لازالت المسؤولة عن الأراضي الفلسطينية التي شدد القرار أنها محتلة منذ أكثر من 37 سنة، وهذا يؤكد مما لايدع مجالا للشك أن وجود "السلطة" لاقيمة له إلا في إضفاء الشرعية على الإحتلال بالإيهام أن هناك حكومة ووزارات ومسؤولين وبالتالي إعفاء الإحتلال من إلتزاماته.
القرار التاريخي وإن كان غير ملزم وإن كان لايغير من واقع الأمر على الأرض شيئا إلا أنه يمثل صحوة دولية أممية وتضامنا وإنصافا للشعب الفلسطيني من أعلى هيئة قانونية عالمية وهذا يمثل طرف الخيط لحشد تأييد دولي لفرض عقوبات على "لإسرائيل" لو كان هناك من يحرص على حقوق الشعب المشروعة ولو كانت هناك نية صادقة لمتابعة تنفيذه على أعلى المستويات وفي جميع المحافل الدولية الرسمية وغير الرسمية.
صدور القرار هو نصر للشعب الفلسطيني بأكمله وبداية تغيير في الضمير العالمي وليس لفئة أو مجموعة أن تدعي الفضل في صدوره.
الكل مطالب بالتحرك لحشد كل الطاقات ليتحول هذا النصر القانوني إلى فعل حقيقي على الأرض، أبناؤنا في الداخل عليهم الإستمرار في نضالهم ضد الجدار العنصري وشعبنا في الشتات عليه التحرك أينما وجد للضغط على الحكومات لتبني القرار وتطبيقه ولفرض عقوبات حقيقية ضد الإحتلال والشعوب الحية والمتضامنة مع حقنا المشروع عليها الإستمرار بنفس الزخم وبوتيرة متصاعدة.
أما النظام الرسمي العربي بما فيه "سلطة أوسلو" فلست واثقا من رؤية أية تغيير أو أمل في سياساتهم إلا إذا إقتضت مصلحتهم ذلك وربما كان أفضل ما يقدموه أن يتركوننا وشأننا!
قالت محكمة العدل العليا كلمتها وصدر القرار ولكن المعركة لم تنه بعد فالطريق طويل وشاق فالجدار يرمز للإحتلال والإحتلال لازال واقعا مريرا جاثما على صدورنا والقرار رغم أهميته وروعته لن يزيل مترا واحدا من الجدار العنصري البغيض ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة والقرار خطوة كبيرة وحافز لنا لكي لا ننسى أنه
"ما ضاع حق وراءه مطالب"
* د. إبراهيم حمامي : طبيب وناشط فلسطيني
DrHamami@Hotmail.com
تاريخ النشر : 09:50 28.07.04