النقابات المهنية على الأجندة الحكومية الأردنية
بقلم : د. هشام البستاني *

د. هشام البستاني

مدخل: لماذا تستهدف النقابات المهنية؟
إذا استثنينا الإخوان المسلمين وجبهة العمل الإسلامي، نستطيع أن نقول بموضوعية أنه لا يوجد إطار أو مؤسسة ذات بعد جماهيري/اجتماعي قادر على الحركة والتأثير في الشارع الأردني سوى النقابات المهنية، فهي تمتلك قاعدة عضوية كبيرة جدا تزيد عن المائة ألف عضو، وتمتلك قدرات مالية كبيرة تتركز بشكل خاص في صناديق التقاعد الخاصة بها، وعليه ، فهي مركز قوة شعبي/اقتصادي لا يمكن إغفاله. وإذا أضفنا إلى ذلك الطابع الوطني للنقابات المهنية، وتمسكها بقوة ونضالها من أجل القضايا الوطنية الأساسية (مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني وحماية الأردن من التغلغل الصهيوني، رفض معاهدات "السلام" مع العدو، الدفاع عن حقوق المواطنين وكرامة عيشهم، الدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية، الدفاع عن العراق ونصرة الانتفاضة)، وأضفنا الآلية الديمقراطية الحقيقية والمؤسسية التي تعمل من خلالها النقابات، وأضفنا عدم قدرة السلطة السياسية على التدخل والتأثير في الجسم النقابي كما استطاعت أن تفعل في الأطر الأخرى (نظراً لاستقلالية النقابات بقوة القانون، واستقلالية أعضائها من المهنيين بحكم أعمالهم الحرة في الغالب)- من كل ما سبق، نستطيع أن نستنتج لماذا تقوم السلطة السياسية والأحزاب الدائرة في فلكها والكتاب الموالين لها، بالتحريض ضد النقابات المهنية، ودورها المهني/الوطني.
فبالرغم من أن السلطة السياسية تنفذ بشكل متسارع خطط "التحول الاقتصادي" نحو اقتصاد السوق، وتشجع "المبادرات الفردية ومبادرات القطاع الخاص"، وتمتثل لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين فيما يتعلق ب"تحرير الأسواق" و"خصخصة القطاع العام"، إلا أنها تقف بصلابة أمام أي استقلالية اقتصادية تملك بعدا اجتماعيا وطنيا خارج أجندات التسوية مع العدو الصهيوني والتبعية للمركز الإمبريالي.
كما تشكل الديمقراطية الحقيقية (ولو كان يشوبها عيب الطابع "الاقصائي" بدلا من التمثيل النسبي) التي تدار من خلالها النقابات، ونجاحها في إرساء مؤسسية أكفأ من بيروقراطية السلطة وأقل منها فسادا إلى حد بعيد، صورة معكوسة لحالة هذه الأخيرة، وهو ما يسبب لها حرجا منقطع النظير.
ويشتد هذا الحرج عندما نقارن الأداء الاقتصادي لمجالس النقابات المتعاقبة بالأداء الاقتصادي للحكومات المتعاقبة، ففي حين نجحت المجالس النقابية في الحفاظ على أموال أعضائها وتنميتها واستثمارها بطرق ناجحة، وتحقيق وفورات كبيرة في صناديقها، نجد الإدارة الحكومية تتخبط بين الفساد والمديونية وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية.

أعذار حل النقابات المهنية: ما وراء الأكمة
الأعذار التي تسوقها السلطة السياسية في مواجهة النقابات لا تقنع أحدا:
فهي تقول أن النقابات المهنية، بأخذها دورا سياسيا، تعيق أو تمنع "التنمية السياسية المتمثلة في نمو الأحزاب"، وهو عذر مردود جملة وتفصيلا لأن ما يمنع التنمية السياسية ببساطة هو الإجراءات والقوانين القمعية، والجو العرفي الذي آلت إليه الأمور في الأردن مؤخرا، فقانون الأحزاب مثلا يضع من القيود والمحددات على الأحزاب ما يجعلها بالضرورة ضعيفة وتابعة وغير قادرة على التأثير بحيث وصل الأمر في بعض المراقبين أن يسموا هذا القانون "قانون منع الأحزاب".
إن تناول موضوع التنمية السياسية هو بالضرورة تناول للأساسات والقواعد التي تقوم عليها هذه التنمية. وبدون إحداث تغيير جذري للأساسات المهترئة (قانون الأحزاب، قانون الانتخابات، قانون الاجتماعات العامة ومجمل القوانين القمعية الأخرى)، وتفعيل الجيد منها (الدستور، البرلمان)، يكون الحديث عن تنمية سياسية هو محض تنمية "سرابية" وقتالا عبثيا ضد طواحين الهواء.
المسألة الثانية التي تطرحها السلطة السياسية في مواجهة النقابات المهنية، هي أنها تغلب الجانب السياسي على الجانب المهني، وبالتالي فهي "مقصرة" في هذا الجانب وعليها أن تعتني به بدلا من الانشغال ب"المناكفات السياسية".
إذا أردنا أن نحيّد جانبا جدلية السياسي/المهني (وهو أمر سأعود إليه لاحقا)، فإننا نرى أن أغلب نشاطات النقابات المهنية هي في الحقل المهني، وتشكل هذه النشاطات ما يزيد عن 80% من مجمل نشاطات النقابات. فتعقد النقابات المؤتمرات العلمية الخاصة بها بشكل دوري كل سنة أو سنتين (حسب النقابة)، إضافة إلى الأيام والندوات والمحاضرات العلمية، والتدريب المستمر، والرقابة على الأداء المهني وضبط أمور المهنة. وكمثال بسيط: يوجد في نقابة أطباء الأسنان 30 لجنة داخلية لمساعدة مجلس النقابة على تنفيذ مهامه، منها اثنتان فقط تعنى بالعمل الوطني (أي ما نسبة 7،6 %)، وهو ما يثبت بشكل قاطع الاهتمام المهني للنقابات.
الحجة التي تسوقها "السلطة السياسية" حول ضرورة الاهتمام بالجانب المهني هي حجة مغرضة، لأن السيفين الذين تسلطهما الحكومة على النقابات المهنية باستمرار من منطلق التهديد (وهما " إلغاء إلزامية العضوية في النقابات" أو "حل النقابات المهنية الحالية مقابل هيئات بديلة") هما إجراءان كفيلان بسحق المهن والضوابط والمصالح المهنية بشكل أساسي وكامل وشامل! وهكذا، فلا يمكننا أن نفهم شعار "مهنة النقابات" و"الاهتمام بالمهنة" إلا في حدود "الأكمة التي تخفي ما وراءها"!

الدور الوطني للنقابات المهنية
بخصوص الدور الوطني للنقابات في مرحلة "الديمقراطية"، وإخراج قانون الأحزاب السياسية إلى حيز التطبيق، يجدر توضيح ثلاث مسائل:
الأولى: ما ذكرته سابقا حول تحديد القانون لحرية عمل الأحزاب، والقيود الهائلة التي تفرضها القوانين المؤقتة (وغير المؤقتة) على الحريات العامة والعمل الجماهيري، مما يجعل حركة الأحزاب (والهيئات والمنظمات) صعبا جدا، خصوصا أن عمرها العلني لا يتعدى ال 14 سنة.
الثانية: لعبت النقابات المهنية (وما تزال) دورا تاريخيا في العمل الوطني، فهي منذ إعلان الأحكام العرفية في العام 1957 تعتبر الصرح الأبرز والأقوى تأثيرا في الدفاع عن الوطن والمواطن، وكانت حتى عام 1989 الملاذ الوحيد للمعارضة التقدمية في الأردن، وخاضت نضالات كثيرة وقدمت تضحيات كبيرة في هذا الجانب. وعليه ، فمن المستحيل (نظريا وفعليا) إلغاء أو حتى تجاوز هذا الدور التاريخي، ويصبح الحديث عن إفراغ النقابات المهنية من دورها الوطني هو حديث عن أحداث فراغ شعبي كامل في الأردن، بعد إفراغ الأحزاب من محتواها بقوة القانون. هذا الفراغ الذي تريد أن تملأه السلطة السياسية كليا وحدها وبلا منازع .
الثالثة: إذا نحينا جانبا الدافع الأخلاقي والموضوعي والتعاقدي الذي يحتم على المواطنين (ومنهم المهنيين) التدخل في الأمور والمسائل الوطنية والعامة سواء بصفتهم أفرادا أو تجمعات، فإننا نرى أن هناك تلاصقا جدليا بين المهني والسياسي/الوطني حتى في الجانب "المصلحي".

فمثلا:
-الدفاع عن نضال الشعب العربي في فلسطين هو في بعض أجزاءه دفاع عن النقابيين من أعضاء النقابات المهنية في الضفة الغربية (النقابات المهنية لا تعترف بقرار فك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية، وهي مسؤولة بشكل مباشر عن المهنيين هناك، ولديها ممثلين منتخبين في الضفة).
-الدفاع عن العراق هو في جزء منه دفاع عن أكبر رافد اقتصادي للأردن (سواء من حيث أن العراق هو الشريك التجاري الأول للأردن سابقا، أو كونه يوفر البترول للأردن بأسعار "تشجيعية" جدا سابقا ايضا!!!)، وهو ما ينعكس إيجابا على اقتصاد الأردن ووضع المهنيين بشكل عام.
-مقاومة التطبيع والتغلغل الصهيوني هو في جزء منه رفض لإلحاق الأردن بالمركز الإمبريالي الإقليمي المسمى "إسرائيل"، وتحويل اقتصاده إلى اقتصاد تابع لهذا المركز، والتأثير المدمر الذي يحدثه كل ذلك على الاقتصاد الأردني والمواطن الأردني، والآثار السلبية التي تنعكس على المهنيين جراء ذلك.
-مقاومة مؤسسات ما يسمى ب"العولمة" ومؤتمراتها واتفاقيات التجارة الحرة هو في جزء منه رفض لفتح سوق المهن وتحريره بحيث يمكن لمن هب ودب من شركات المحاماة الاجنبية الكبرى او تجمعات من الاطباء الاجانب...الخ ان يفتح مراكز له في الاردن ويقضي على المهني المحلي.
ينسحب كل ما ذكر أعلاه على جميع القضايا التي تهم المواطنين بشكل عام في الأردن (الحريات، الفقر، والبطالة ...)، وغير بعيد عنا أن نعلم أن المهنيين مواطنون أيضا! ولهذا فان الدور الوطني للنقابات المهنية هو دور مبرر وموضوعي ومنطقي، بل وضروري تماما!

المعارضة: في النقابات المهنية أم في الشارع؟
النقابات المهنية هي مؤسسات ديمقراطية بالكامل وسياساتها على الصعيد المهني/الوطني تنبع من توجهات الهيئات العامة لهذه النقابات، حيث أن الهيئة العامة هي السلطة الأعلى في النقابة، وهي التي تقرر جميع المحاور المفصلية من خلال آليتين هما:
1 - اجتماع الهيئة العامة السنوي وما يتمخض عنه من قرارات وتوصيات وتوجهات.
2 - انتخابات المجالس النقابية وهي انتخابات ديمقراطية بالكامل تجري كل سنتين أو كل ثلاث سنوات (بحسب النقابة المعنية) وتفرز النقيب ومجلس النقابة الذي ينفذ قرارات وتوصيات الهيئة العامة.
من الجدير ملاحظة أن "الثوابت الوطنية" للنقابات هي محط إجماع لأغلبية المشارب الفكرية والسياسية المنضوية في إطار الهيئة العامة. فمقاومة التطبيع والتغلغل الصهيوني على سبيل المثال، هو قرار للهيئات العامة لجميع النقابات المهنية، وليس قرارا لأحد المجالس المنتخبة، وهذا ينسحب على جميع القضايا الوطنية الاخرى. وبالإمكان الاستدلال عن هذا الإجماع من خلال النظر إلى تركيبة اللجان النقابية المعنية بالعمل الوطني، حيث يجلس الماركسي إلى جانب القومي إلى جانب الإسلامي في تناغم كامل، ولا تكون الخلافات عادة إلا حول قضايا إجرائية تفصيلية.
إن الحديث عن "معارضة" النقابات المهنية هو قطعا ليس حديث عن "عادة" أو "مناكفة" أو "دقر"، بل هو تعبير عن وجود توجه عارم يمثل تمثيلا واقعيا عدم الرضى الجماهيري الواسع في جميع القطاعات الشعبية، تَكثّف ووجد صيغته المنظمة في جسم النقابات المهنية التي تضم الشرائح المتعلمة والمثقفة في الأردن. وهو تكثيف يجب على السلطة السياسية أن تستوعب أبعاده المختلفة بدلا من أن تخوض صراعا ضده.

إضعاف النقابات
في ظل انزعاج الحكومة المستمر من أي صوت (ناهيك عن قوة) معارض حقيقي في الشارع الأردني، فمن غير المستبعد (نظريا على الأقل) أن تقوم الحكومة بإصدار قانون مؤقت للنقابات المهنية لإدخال النقابات إلى بيت الطاعة الحكومي، أو حل مجالس النقابات المنتخبة وتعيين هيئات متناغمة مع الحكومة لإدارة النقابات والتخلص من همها.
ولكن الأمور ليست بهذه السهولة، فهكذا قرارات تضر بقطاعات كبيرة جدا من المجتمع الأردني إلى درجة لن تستطيع السلطة السياسية احتواء عواقبها، سواء على الصعيد الوطني، أو المهني، أو الإداري، أو الاجتماعي. وهي تعني:
1_ ضرب آخر معقل مدني سيحول اختفائه الأردن إلى ساحة فارغة من القوى لمصلحة لاعب وحيد هو السلطة التنفيذية، أي سيتم التحول إلى مفهوم "الدولة التوتاليتارية" بالكامل.
2_ انهيار صناديق التقاعد وصناديق التأمين الصحي وصناديق التكافل وبرامج القروض والإسكان، وبالتالي انهيار القطاعات الواسعة المستفيدة منها (إذا أخذنا بعين الاعتبار عائلات النقابيين، يصبح الحديث هنا عن حوالي نصف مليون مواطن)، وانهيار الاستثمارات النقابية.
3_ انعكاس كل ما سبق ذكره على الاقتصاد الوطني والبنية الاجتماعية/الاقتصادية للأردن.
كل هذا لن يؤدي فقط إلى استعداء الشريحة المثقفة والمتعلمة، والإضرار بمستوى المهن والمهنيين، بل سيؤدي أيضا إلى خلق أزمات اقتصادية/اجتماعية داخلية ليس لها نهاية.

* كاتب وناشط في مسائل المقاطعة ومناهضة العولمة، عضو لجنة مقاومة التطبيع النقابية