صفحة المعلومات للعرب في المانيا
Redaktion & Gestaltung: A.M@nsour

قراءة في سياق التاريخ للرؤية الأمريكية
بقلم : د. يوسف الفقهاء / عمّان - الأردن

تعتبر المؤامرة التي مازال يتعرض لها الإنسان العربي منذ أوائل القرن الماضي , من أخطر ماشهده التاريخ من حيث ديمومتها وعدد الأطراف المتحالفة لتنفيذها إضافة الى تنوع صورها وأهدافها وخاصة أن تلك المؤامرة تستهدف بالدرجة الأولى الإنسان وما يمثله من قيمة حضارية وأخلاقية ووعي وطني وانتماء قومي وإيمان عقائدي بهدف تغييبه عن الفعل في هذا العالم .
ابتداءً من تغييبه في وطنه بحرمانه من المشاركة الفعلية باتخاذ القرارات حتى تلك التي تتعلق بمصيره ومستقبله وحرمانه من التمتع بحرية الرأي والتعبير وحقه بالحياة الكريمة والشعور بالأمن والأطمئنان على مستقبله ومستقبل ألأجيال القادمة . وقد تم فعلا تحقيق الكثير من فصولها , فاستمرأ ( سدنتها ) هذه اللعبة , وبدلا من ان يتوقفوا عند هذا الحد او ذاك ازدادوا في طغيانهم يعمهون , وتجاوزوا كثيرا ( المعقول منه ) , وباتوا راغبين بتحقيق المزيد يساعدهم في هذا ما يرونه من الأحوال التي آلت اليها الأمة , فعمدوا الى رفع وتيرة فعلهم الهجومي وبما يحقق ارباك الخصم من خلال تلاحق ألأحداث من حوله كي يحرم حتى من فرصة التفكير والأعداد لمواجهتها ناهيك عن التقاط الأنفاس .
فظنوا انهم احكموا الطوق وحققوا احلامهم , وأوحى لهم البعض بأن الجماهير قد تم ترويضها وباتت جاهزة لتتلقى الضربة القاضية بكل صدر رحب . ساعدهم في ذلك ايضا بعض (المحاولات الناجحة ) باستدراج الخصم من موقع الى آخر ليصل في النهاية الى المربع ألأخير حيث يلقى حتفه , فاعتمدوا هذا النمط كأساس دائم للتطبيق والتعامل مع القضايا العربية عموما والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص , دون احتساب للعواقب الوخيمة والتي من الممكن أن تحدث كنتيجة حتمية ومنطقية لدفع الخصم الى ذلك المربع , حيث لن يكون امامه عندئذ أية فرصة للأستمرار (بتفعيل العقل ) , بل سيندفع تلقائيا نحو الأساليب التي يعتقد أنها ستؤدي الى إفهام خصومه وإفهام أدواتهم بأنه لم يعد قادرا على التحمل , لأنه أصلا لم يعد أمامه وجود لمربعات اخرى الاّ خارج الرقعة , حيث المفاجئات التي قد لا تبقي ولا تذر .

وقد كنا نظن أن التاريخ وما قدمه و يقدمه من تجارب عن أرادة الشعوب وقدرتها على انتزاع حقوقها بالرغم من كل التضحيات , سيكون كافيا لمن يهمهم الأمر بان يستخلصوا العبر وبالتالي اتخاذها مرجعية لهم لبناء مرحلة جديدة من التعامل مع قضايانا العربية وبالذات القضية الفلسطينية , ولكن على ما يبدوا فان الوقت مازال مبكرا جدا لأخذ ذلك بعين الأعتبار . سقت هذه المقدمة عل في سياقها وبناء عليها ما يسمح لنا ويعطينا الحق بأن ننظر الى آخر جرعة من المسكنات التي يتم حقننا بها بين مرحلة وأخرى وأعني تحديدا ما ورد في خطاب السيد كولن باول سكرتير الأدارة الأمريكية للشؤون الخارجية , فالخطاب وباختصار شديد يعتبر بمجمله طلاسم من المفردات المبهمة والأشارات التي تحتاج الى توضيحات قد تصبح في يوم قريب مجالا خصبا للأجتهاد ولا نبالغ اذا قلنا الى مفاوضات وتفاهمات , وخاصة أنه بات من الواضح أن توجهات الحكم في " اسرائيل " لا توحي بأنه تم استيعاب العبر والدروس خلال الأربعة عشر شهرا الماضية , لا بل أن ( الرؤية الأمريكية ) للتسوية والتي عرضها السيد باول تثبت أن الأدارة الأمريكية هي الأخرى لم تستوعب بشكل كامل تلك العبر مضافا اليها ما حدث في 11\9\2001 .

فالرؤية الأمريكية للتسوية حسب ما قدمها السيد باول في خطابه , تتعامل مع القضية الفلسطينية من منطلق حاجات اقتصادية وانسانية وفي أفضل الأحوال كحاجة معنوية , بينما تقفز عن حقيقة الصراع والمتمثلة أولا وأخيرا بقضية حقوق شرعية وتقرير مصير وكنس إحتلال غاشم وغادر وغاصب قام وما زال على سلب الأرض وتغيير المعالم وتزوير الحقائق وانكار الحقوق , وغاب عن تلك الرؤية ضرورة الأعتراف بأنه لم يعد هناك مجال للمراوغة وكسب الوقت حيث أنها أفتقدت الى آلية لتطبيق ما ورد بالرؤية , ناهيك عن افتقارها الى أية آلية تتعلق بتطبيق قرارات الشرعية الدولية عندما يحين وقت تناولها . وفي هذا الأطار أشير الى أن السيد باول يعترف بأن تلك الرؤية تحتاج الى عمل دؤوب وجهد متواصل وأن (السبيل للعودة الى عملية سياسية لن يكون سريعا أو سهلا) , وبتصوري أن ما يقصده السيد باول من كلماته تلك هو إعطاء الأنطباع بأن تحقيق السلام سيحتاج الى سنوات , وفعلا فأنني أوافقه تماما في اعتقاده هذا , فحسب الرؤية التي قدمها وما سبقها ورافقها من اكسسوارات فأن الأمر سيبقى مرهون بتوفير العديد من المعطيات وأهمها إعطاء الفرصة (لأمريكا وحلفائها ) وتحت ذريعة محاربة الأرهاب لترتيب وتهيئة الأجواء لمزيد من السكون ومزيد من تثبيت الكتف العربية فوق حلبة الصراع , والدليل على ذلك هو ادراج بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وحزب الله وحركة حماس على قائمة الأرهاب , وتحميل تبعات تلك التهيئة لأطراف محلية يعرف السيد باول وأدارته أنها غير قادرة على القيام بها وتحمل نتائجها حتى لو أرادت .

أما الشرط الأساسي لتحقيق تلك الرؤية كما هو واضح في خطاب باول فهو مرهون بتلطف الصهاينة بالقبول بأسس السلام العادل والدائم والشامل واقتناع الطرفين _ الضحية والجلاد _ بأهمية السلام !

وهنا أود أن أشير الى أن الأدارة الأمريكية تعتبر أن ما قدمه الطرف الفلسطيني للآن غير مقنع لها بأنه يريد السلام بدليل أنها تطالبه بموقف أكثر وضوحا فيما يتعلق (بازالة شكوك اسرائيل بشأن ما اذا كان الفلسطينيون يريدون حقا السلام ) !! ولا أدري اذا كان يعتبر السيد كولن باول بالمقابل قتل جنود الأحتلال لشيوخ ومرضى الشعب الفلسطيني على الحواجز بانتظار السماح لهم بالمرور لتلقي العلاجات في المستشفيات , ولأطفاله الذين يقتلون في طريق ذهابهم الى مدارسهم , هو موقف اسرائيلي يزيل الشكوك الفلسطينية برغبة حكام تل أبيب بالسلام ؟ أو أن ما يمارس من إرهاب رسمي يقرر على مستوى وزاري وبمحاضر جلسات موثقة هو ايضا موقف يزيل الشكوك الفلسطينية برغبة حكام تل أبيب بالسلام ؟ وهل كان صدفة أن يذكر السيد باول ويستنكر اغتيال الوزير الأسرائيلي رحبعام زائيفي بالأسم , في حين لم يمر على ذكر عمليات القتل والأغتيال المنظم والتي طالت حتى قيادات الصف الأول من رموز الشعب الفلسطيني !

من الجائز الأعتراف بأن خطاب السيد كولن باول قد حمل بعض الجديد , ولكن هذا الجديد بالرغم من أهميته لدى البعض فانه لا يعدو كونه اذا ما قورن بما كان مأمول به لم يصل الى الحد الأدنى من الأعتراف الواضح والجلي والذي لا لبس فيه بضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية والتي تستند وتلجأ اليها أمريكا في كل مرة ترى فيها أن مصالحها أو مصالح بعض حلفائها مهددة حيث تعمل على تفعيل البند السابع من ميثاق مجلس الأمن الدولي وتفرض بالتالي الأنصياع لتنفيذ تلك القرارات بقوة السلاح وكافة الوسائل المتاحة حتى لو كانت وسائل غير أخلاقية .

لقد أثبتت العقود السابقة من تاريخ الصراع العربي _الأسرائيلي أن أسرائيل غالبا ما تلجأ في كل مرة ترى نفسها فيها وقد أوشكت على دفع بعض الأستحقاقات المطلوبة أن تلجأ الى خلط الأوراق واستخدام القوة وتصدير أزمتها الى خارج الحدود , وفي اعتقادي أنها وفي ظل ماستجد من ظروف على الصعيد الدولي وفي ظل ظروف (الأحراج) الدولي للطرف العربي إثر أحداث أيلول الأمريكية قد استطاعت فعلا أن تصدر الدفعة الأولى من أزمتها الى خارج حدود المنطقة برمتها ولكن الى منطقة طالما أرادت لها أن تكون تحت رعايتها أو رعاية حلفائها , حيث كانت وما زالت تشكل بعض التطورات فيها همّا استراتيجيا لها طالما سعت للتخلص منه وأقصد به البرنامج النووي الباكستاني والذي كان على الدوام ضمن أهدافها العديدة والمتنوعة و التي لا حدود لها لأنها قابلة دوما لتتسع وتنموا دون سقف محدد أو منضبط وبما تمليه عليها مصالحها و أحلامها التوسعية . والتي لا شك أنها من أحد الأسباب الرئيسية الكامنة وراء كل الأختلالات ألأمنية التي ميزت القرن الماضي وستميز القرن الحالي بلا أدنى شك . حيث أصبح البحث عن الأمن هو الهم المشترك بعد أن كان همّا استمر مع اليهود عبر تاريخهم وحتى بعد أن أقاموا "دولتهم" .
لأن قيامها وضمن المواصفات الصهيونية لم يكن طبيعيا , حيث تطلب قيامها ابادة الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والتاريخ , وجاء في وسط منطقة تعد مهدا للحضارات والرسالات السماوية حيث تطلب هذا أيضا من اسرائيل أن تعمل على ابقاء هذا المحيط يعيش في حالة من التخلف والضياع الدائمين عبر ممارسة الكثير من المحرمات على هذا الوسط , ومنعه من امتلاك ما هو حلال لغيره , فامتلاك الشعوب العربية لناصية العلوم من الممنوعات , والتطور الزراعي وامتلاك التكنولوجيا الحديثة من المحرمات بل من الكبائر , والولوج الى عالم التقدم جريمة لا تغتفر . وهكذا ستبقى الدائرة تتسع وتتسع بشكل مرهق وضاغط على الجميع إذا ما بقي العالم يتغاضى عن الأسباب الحقيقية للصراع والتقليل من حجم ردات الفعل الطبيعية على ما لحق بالمنطقة وشعوبها من أذى . وستبقى ( أسرائيل ) وقادتها يتخبطون في مأزقهم ,والمتمثل بعدم قدرتهم على دفع استحقاقات السلام العادل والدائم والشامل حتى ( لو رغب البعض منهم فيه ) , لأنهم بنوا (دولتهم) أساسا على الحرب والتي لن يكونوا قادرين على المضي فيها رغم عقدة البحث عن الأمن منذ أن حلت بهم وبالعالم المأساة الحقيقية والتي تمثلت بانتصار الحركة الصهيونية في حرب عام 1948 وقيام (دولة اسرائيل) , حيث أخرج اليهود من مجتمعاتهم التي كانوا يعيشون في معظمها معززين مكرمين ليشكلوا مجتمعا غير قادر ليس بالأندماج بالمجتمعات المحيطة فحسب بل أن أفراده غير قادرين أيضا للعودة الى مجتمعاتهم الأصلية التي خرجوا منها .

وبعد , هذه هي القضية او بعض منها وليست كما يتصورها باول وألأدارة الأمريكية لأنها لو كانت كذلك فانه لمن الأجدر بنا القبول بالعيش بكنف الأحتلال والأنصياع الى إرادته وأدارته وبالتالي الأستفادة من استتباب الأمن والأستقرار والعيش بنسب معقولة من الحرية والتمتع بالرفاهية المادية ورغيف الخبز ومختلف أشكال الحياة الرغدة على شواطىء ناتانيا وما قد يقدمه " المجتمع الأسرائيلي " غربي الطابع من إضافات شكلية للحياة . , وسيبقى منطق التاريخ وأرادة الشعوب هي الباقية وهي المنتصرة .
===================
الدكتور : يوسف الفقهاء
.