حدود الجدل : بين الاتجاه الانعزالي واتجاه الارتباط بقضايا العالم الإسلامي في الأوساط المسلمة الأمريكية بعد 11 سبتمبر
بقلم : علاء بيومي

الجدل الدائر حاليا في الأوساط السياسية المسلمة الأمريكية حول العلاقة بين البعد الداخلي والبعد الخارجي في أجندتهم السياسية خلال فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر يكشف عن العديد من الخصائص المميزة للقوى السياسية المسلمة الأمريكية ويحتاج لمعاملة خاصة لترشيده وتحويله إلى جدل إيجابي يدفع هذه القوى الناشئة إلى الأمام ويوثق علاقتها بقضايا العالم الإسلامي.

فالواضح أن أحداث وتبعات الحادي عشر من سبتمبر أثارت جدلا واسعا بين القوى السياسية المسلمة الأمريكية حول طبيعة علاقتهم بقضايا العالم الإسلامي وحجم الدور الذي تلعبه هذه القضايا في أجندتهم السياسية وما يجب أن يخصصوه من موارد للتركيز على هذه القضايا في المستقبل المنظور.

ففي أعقاب أحداث سبتمبر ظهر اتجاه بين أوساط المسلمين الأمريكيين ينتقد تركيز المنظمات المسلمة الأمريكية السياسية الكبرى على قضايا العالم الإسلامي وعلى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه هذه القضايا، ويعتـبر هذا التركيز إهمالا لقضايا السياسية الداخلية الأمريكية وعلى رأسها المشاركة في العملية السياسية الأمريكية والتركيز على قضايا التعليم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية والتي لو اهتم بها المسلمون في أمريكا بالقدر الكافي - كما يرى أصحاب هذا الاتجاه - لتوطدت علاقة المسلمين بغيرهم من الجماعات المكونة للمجتمع الأمريكي.

ومن أهم مظاهر هذا الاتجاه تصريحات وكتابات نشرها بعض المثقفين والنشطين السياسيين المسلمين الأمريكيين في وسائل الإعلام الأمريكية المختلفة - في الشهور الخمسة الماضية - أعربوا فيها عن اعتقادهم أن أجندة مسلمي أمريكا السياسية - وربما الدينية أيضا - في حاجة إلى إصلاح، ورأوا أن الإصلاح المطلوب يمكن تحقيقه من خلال التركيز على الاندماج داخل المجتمع الأمريكي وتأكيد هويتهم الأمريكية والتأكيد على قيم الوسطية والمرونة في التعامل مع التعاليم الإسلامية وخاصة فيما يتعلق برؤية هذه التعاليم للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين.

كما سعى أصحاب هذا الاتجاه - في محاولة منهم لتسجيل نقاط سياسية إيجابية لدى الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية - إلى تصوير أنفسهم على إنهم يعبرون عن صوت الأغلبية المسلمة الأمريكية الصامتة والتي تؤمن بأفكارهم وتعجز عن تطبيقها بسبب قلة تنظيمهم وسيطرة المنظمات المسلمة الأمريكية السياسية الكبرى على عملية تمثيل المسلمين الأمريكيين في الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية.

وقد جذبت بعض هذه الشخصيات اهتمام الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية لأسباب مختلفة على رأسها اهتمام هذه الدوائر غير المسبوق بالإسلام والمسلمين في أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر ومحاولة هذه الدوائر إلقاء الضوء على موقف المسلمين في أمريكا من أحداث سبتمبر وخاصة فيما يتعلق بعلاقتهم بالولايات المتحدة والمجتمع الأمريكي في مقابل علاقتهم بالعالم الإسلامي والثقافة الإسلامية.

وقد ساهم هذا الاهتمام في تعميق الجدل الداخلي بين القوى المسلمة الأمريكية حول هذه القضية، وبغض النظر عن أسماء وخلفيات أصحاب التوجه الداخلي - والتي نتعمد هنا عدم الإشارة إليها رغبة منا في عدم شخصنه الجدل، وبغض النظر أيضا عن أسلوب وأهداف تناول الدوائر الإعلامية والسياسية الأمريكية لهذا الجدل - والذي مال في الغالب إلى البساطة وعدم التعمق، فإن ما يهمنا هنا هو فهم المسلمين في أمريكا وخارجها لهذا الجدل وأسلوب تعاملهم مع مظاهره وأثاره.

وأعتقد أن الأوساط المسلمة والعربية داخل وخارج أمريكا سوف تتعامل بصورة أفضل مع هذا الجدل ومظاهره إذا أخذت في اعتبارها عدة متغيرات أساسية تتعلق بسياق صياغة أجندة مسلمي أمريكا السياسية في مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.

أول هذه المتغيرات هو طبيعة المسلمين الأمريكيين الشديدة التعدد والاختلاط من مختلف النواحي كما تشير الدراسات والتي من أحدثها وأشملها دراسة أصدرها مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) في عام 2001 عن المساجد والمسلمين في أمريكا، فمن الناحية العرقية تشير الإحصاءات إلى انقسام المسلمين الأمريكيين إلى ثلاثة مجموعات عرقية متساوية نسبيا هي الجنوب أسيويين والأفارقة الأمريكيين والعرب إذا تشكل كل مجموعة من هذه المجموعات حوالي ثلث المسلمين الأمريكيين، الأمر الذي يعنى أن ثلث المسلمين الأمريكيين على الأقل هم من أهل البلاد الذين اعتنقوا الإسلام وأن الثلثين هم من المهاجرين. كما يأتي المهاجرون من عشرات الخلفيات الوطنية واللغوية والثقافية.

ويزيد من الطبيعة التعددية للمسلمين الأمريكيين تزايد أعدد أبناء الجيل الثاني من المسلمين الأمريكيين والذي ولدوا لأباء مسلمين سواء مهاجرين أم غير مهاجرين، وفي الحالتين يتميز أبناء هذا الجيل بخصائص تميزهم عن آبائهم وخاصة فيما يتعلق بالارتباط ببلدان العالم الإسلامي.

وتفرض هذه الطبيعة التعددية المختلطة على المسلمين الأمريكيين تعدد الآراء ووجهات النظر حول مختلف القضايا، كما تفرض عليهم أيضا احترام الرأي المخالف ومقابلته بعقلانية ومرونة سعيا لتوحيد الصف الداخلي.

ومن ثم يعتبر الجدل الداخلي خاصية أساسية وضرورية لأية جماعة تمر بما يمر به المسلمون الأمريكيون من ظروف.

ثانيا الجدل حول طبيعة العلاقة بين الداخل والخارج في قضايا المسلمين الأمريكيين ظاهرة قديمة تمتد جذورها إلى ما قبل الحادي عشر من سبتمبر بسنوات وربما بعقود، فهي ترتبط بنشأة المسلمين الأمريكيين كجماعة حديثة التكوين وحديثة العهد بالعمل على الساحة السياسية الأمريكية، هذه الحداثة فرضت على المسلمين الأمريكيين - وخاصة المهاجرين منهم - الاهتمام بتطوير البعد الداخلي لأجندتهم السياسية، وإذا راقبنا خطاب المنظمات المسلمة الأمريكية السياسية الكبرى في العقد الماضي نجد أنها ركزت بصفة مستمرة ومتزايدة على أهمية أن يعي المسلمين قضايا السياسة الداخلية في الولايات المتحدة وعلى رأسها قضايا التأثير على العملية السياسية وقضايا التعليم والاقتصاد والحقوق المدنية.

والواضح أيضا أن هذا الجدل يتجدد ويزدهر في فترات الأزمات الدولية والداخلية التي تتضمن خلافات بين الولايات المتحدة ودول إسلامية - ومن أحدثها أزمة حرب الخليج الثانية وأزمة حادث تفجير مركز التجارة العالمي الأول في عام 1993 وحادث تفجير أحد المباني الفيدرالية في أوكلاهوما في عام 1995، ويرجع ازدهار هذا الجدل في تلك الأوقات إلى الضغوط التي يتعرض لها المسلمون الأمريكيون على أثر هذه الأزمات، وفي العادة ما يخرج المسلمون الأمريكيون من هذه الأزمات بعدة دروس أساسية على رأسها ضرورة الاهتمام بتثبيت وجود المسلمين في الولايات المتحدة كخير طريق لخدمة قضايا العالم الإسلامي.

ولذا تعتبر مقولة ترتيب البيت الداخلي مقولة شائعة في الأوساط المسلمة الأمريكية وخاصة لدي قيادات المنظمات المسلمة الأمريكية السياسية الكبرى، إذ عبر العديدون منهم - من خلال استخدامهم لهذه المقولة الشائعة - عن اعتقادهم أن مسلمي أمريكا مازالوا يمرون بمرحلة النشأة داخل المجتمع الأمريكي وأن الأولوية خلال هذه المرحلة يجب أن تذهب لمساعدة المسلمين الأمريكيين على الاستقرار في مجتمعهم الجديد.

المتغير الثالث الذي يجب أخذه في عين الاعتبار عند تفسير الجدل الحالي هو أثار أحداث الحادي عشر من سبتمبر السلبية العديدة على المسلمين الأمريكيين عامة وعلى موارد وطاقات المنظمات المسلمة الأمريكية السياسية الكبرى بصفة خاصة، فالواضح أن تركة الأزمة السلبية الكبيرة - خاصة على صعيد انتهاك حقوق وحريات المسلمين المدنية وتشويه صورة المسلمين والإسلام في الدوائر الإعلامية والسياسية الأمريكية - من شأنها استنزاف موارد المؤسسات المسلمة الأمريكية المحدودة للغاية، وإذا تناولنا مجال الحقوق المدنية على سبيل المثال لوجدنا أن التعامل مع عدد حالات انتهاكات الحقوق المدنية التي رصدها مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) وحده وهي 1700 حالة في الشهور الخمسة التالية لأحداث سبتمبر تحتاج لموارد طائلة للتعامل معها تفوق موارد المؤسسات المسلمة مجتمعة من وجهة نظري.

ومن شأن استنزاف موارد المنظمات المسلمة الأمريكية في مجرد الدفاع عن تلال من قضايا الحقوق المدنية والتشويه الإعلامي أن تقل قدرة هذه المنظمات على الاهتمام بالقضايا الخارجية، خاصة إذا أدركنا التأثير السيكولوجي السلبي التي تركته الأزمة على نفسية الإنسان المسلم العادي في أمريكا، إذا زادت الأزمة من إحباط هذا الإنسان وشعوره بعدم الأمن الداخلي وعدم الثقة في العملية السياسية.

هذا لا يعني عدم اهتمام المسلمين في أمريكا بقضايا العالم الإسلامي فالعكس هو الصحيح إذ تضع معظم المنظمات المسلمة الأمريكية الكبرى قضية إصلاح السياسية الخارجية الأمريكية تجاه العالم الإسلامي في أولوياتها الأساسية.

وما أردنا أن نسلط الضوء عليه - في هذه المقالة - هو بعض أبعاد وأسباب الجدل الدائر في الأوساط المسلمة الأمريكية حول طبيعة العلاقة بين قضايا الداخل والخارج في أجندتهم السياسية، وأنه يجب أخذ هذه الأبعاد بعين الاعتبار في أية مناقشات قد تدور حول هذا الجدل فيما بعد فترة الحادي عشر من سبتمبر حتى لا يتحول الجدل إلى مجرد جدل سياسي عقيم يهدف إلى تسجيل نقاط سياسية وإعلامية فقط.

وفي النهاية وبالنسبة لموقف مسلمي الخارج من هذا الجدل فعلى المدى القصير يحتاج مسلمي الخارج إلى تعميق فهمهم لأوضاع المسلمين في أمريكا والظروف التي يمرون بها حتى لا يسيئوا تفسير بعض هذه الظروف والأوضاع.

وعلى المدى البعيد أتمنى أن يسعى مسلمو الخارج - من خلال برامج مستمرة ومنظمة - إلى تعميق علاقتهم وصلاتهم بمختلف فئات المسلمين الأمريكيين وعلى رأسها أبناء الجيل الثاني المسلم الأمريكي. كما أتمنى أن تمتد جهود مسلمي الخارج في تعميق علاقتهم مع مسلمي أمريكا ليس فقط إلى المنظمات المسلمة الأمريكية وإنما أيضا إلى المسلم الأمريكي العادي في المساجد والمراكز الإسلامية بهدف إشعاره بوجد قنوات اتصال وحوار دائمة بينه وبين بلدان أمته الإسلامية.


- انتهى -


علاء بيومي
كاتب عربي مقيم في واشنطن
واشنطن - الولايات المتحدة